وعدت مرة أخري عارفا أنني أضغط علي الرجل إلي درجة تقارب الإلحاح, فأشرت إلي سابق تجارب إسرائيل مع العرب في استغلال قرارات وقف إطلاق النار بعد صدورها, متجاهلة نداءات دولية وحججا واتهامات توجه إليها بالغش والتدليس. ولكنها تظل متمسكة بما خطفته أو نشلته في حماية قرار دولي أطاعه العرب وأصرت هي علي عصيانه, ورد الرئيس السادات بلهجة واثقة: إطمئن. قلت لك هذه المرة مختلفة لأن رئيس الولايات المتحدة بنفسه يدير الأزمة ـ وقد كتب إلي بما يبدد شكوكك وشكوك غيرك يبلغني أن طائرات الاستطلاع من طراز يوتو التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية سوف تحلق فوق خطوط القتال طوال اليوم حتي تصور المواقع علي الجانبين, وتكشف وتحدد أي الطرفين يغش وأيهما يلتزم. وإذن فإسرائيل لاتستطيع التلاعب, وإذا حاولت فهناك لأول مرة من يستطيع أن يشكمها ويضعها في مكانها في الصندوق!
وواصلت الجدل معه شاعرا أنها الفرصة الأخيرة.
ـ شرحت له مخاوفي من احتمال انفراط عمل عربي مشترك وصل إلي درجة من التعبئة يمكن البناء عليها لإعادة بناء نظام عربي قادر يجعل الأمة بالفعل كما قال هو قبل أيام’ القوة السادسة في العالم’. ورد وفي صوته نبرة صدق:’ بأنه لابد أن أعرف أنه يختلف عن’ جمال'( عبد الناصر) فهو لا يريد إقامة إمبراطورية, ومطلبه أن يستريح هو ويستريح الناس من عناء الحروب ليبدأوا عهدا من الرخاء يراه مقبلا’.
ومع أن ذلك الخلط بين عمل عربي مشترك ومطلب إمبراطوري مصري- روعني فقد مضيت أجادل’ بأننا مازلنا وسط حرب لم تنته بعد’. ووجه نظره إلي قائلا وهو يضحك بطريقته الشهيرة ما نصه:’ سجل عندك- هذه آخر الحروب’.
ثم استطرد بما مؤداه أنني مازلت اتكلم علي قديمه ولم استوعب بعد أنها حاجة جديدة.
ونزل علي وجوم والغريب في الأمر أنني كنت مازلت قادرا علي فهم جزء من مشاعره:
- كان عبء قرار الحرب عليه ثقيلا.
- وكانت أيام القتال بالنسبة له شاغلا ملحا.
- ثم إن الرجل في النهاية سمع مني كل ما قلته دون أن يعلو صوته, كما فعل مثلا مع السيد’ حافظ إسماعيل’ الذي حاول لفت نظره’ إلي خشيته من أن يكون العسكريون قد نقلوا إليه أخبارا متشائمة ورد عليه الرئيس’ السادات’ بعنف أحرج الرجل المهذب والمنضبط.
وفوق ذلك فقد انهمرت علي الرئيس السادات في تلك الفترة رسائل ثلاث من ملوك المنطقة وكأنها تعزز تعهدات’ نيكسون’.
وكنت رأيت بعض الرسائل الواردة إليه من الملوك الثلاثة واستأذنته في صور منها ـ وأذن.
كانت رسائل الملوك الثلاثة التي انهمرت عليه فجأة- كثيرة:
} رسائل من’ محمد رضا بهلوي’ شاه إيران وفي إحداها يقول:’ إن ما تحقق في ميدان القتال يكفي وإن التمادي بعد ذلك خطر وأنه في محادثة تليفونية مع الرئيس’ نيكسون’ فهم منه أن أمريكا لن تسمح بانتصار عربي بالسلاح السوفيتي لأن تلك مسألة تتصل بالاستراتيجية العالمية وإدارة الحرب الباردة.
ثم يقول الشاه’ إن أي انتصار كبير علي فرض إمكان تحقيقه يمكن أن يكون دافعا إلي مطالب شعبية يصعب الوفاء بها لأن شهية’ الدهماء’Rif-Raf حسب وصفه سوف تطالب بمكاسب لا تقابلها موارد وذلك أقرب طريق إلي القلاقل الداخلية- وحتي إلي العصيان والثورة!
} رسائل من’ الحسن الثاني’ ملك المغرب وفي إحداها يقول الملك’ إن معلوماته تؤكد له أن’ الجماعة’ في تل أبيب( يقصد القيادة الإسرائيلية) تعلموا درسا, وأنه يعرف عن يقين وعن طريق’ الحزب الملكي’ من المهاجرين واليهود المغاربة من رعاياه وبعضهم في مواقع السلطة- أنهم في إسرائيل جاهزون لسلام حقيقي علي أساس انسحاب إلي خطوط4 يونيو1967.
} ورسائل معظمها شفوي من’ فيصل بن عبد العزيز’ ملك السعودية يحملها إليه السيد’ كمال أدهم'( مدير مخابراته وأهم مستشاريه)- لكن الملك في رسائله يلمح ولا يصرح وهو في كل رسالة خصوصا إذا كانت مكتوبة’ يترك القرار لحكمة الرئيس واثقا في حكمته وحسن تدبيره’.
وكان قصاري ما أفصح به الملك’ فيصل’ عن فكره هو استشهاده بالآية الكريمة التي تقول’ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله’ وقد وصلت هذه الرسالة في يوم وصول’ هنري كيسنجر’ نفسه إلي القاهرة.
وكنت أستشعر مدي تأثير رسائل الملوك الثلاثة علي الرئيس’ السادات’.
وفي نهاية ليلة طويلة وعصيبة خرجت من قصر الطاهرة شاعرا بأننا علي أبواب أزمة في علاقاتنا هي بالتأكيد الأعمق.
وعندما وصل’ هنري كيسنجر’ إلي القاهرة أول مرة يوم7 نوفمبر1973 وطلب أن يقابلني حاولت أن أعتذر بواسطة السفير’ أشرف غربال’ وهو وقتها المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية, خصوصا بعد أن قرأت نص مشروع النقاط الست التي عرضها علي الرئيس’ السادات’ ونالت موافقته في لقائهما الأول وبالفعل اعتذرت عن غداء أقامه له السيد’ حافظ إسماعيل'( مستشار الرئيس للأمن القومي وقتها)- في نادي’ التحرير’ لكن السفير’ أشرف غربال’ عاد إلي بعد قليل يبلغني أن الرئيس’ السادات’ يطلب مني أن أقابل’ كيسنجر’ واتصلت بالرئيس ولكنه كان قاطعا’ لأننا في هذه اللحظة يجب أن نكون صفا واحدا وكلمة واحدة’.
وحضرت بالفعل حفل عشاء في بيت الصديق العزيز الراحل’ إسماعيل فهمي'( وزير الخارجية وقتها) وكان العشاء تكريما لـ’ كيسنجر’ واتفقنا علي أن يغادر وزير الخارجية الأمريكية حفل العشاء في الساعة العاشرة وألحق به بعد ربع ساعة إلي جناحه في الدور الثاني عشر من فندق هيلتون النيل حيث يقيم والوفد المرافق له وجلسنا لحديث طويل دام ساعتين ونصف ساعة.
وصباح اليوم التالي اتصلت بالرئيس’ السادات’ وذهبت إليه في الساعة الحادية عشرة صباحا وكان لا يزال في سريره بعد حمام ساخن وهو بعد الحمام يرتدي’ البرنس’ الأبيض وفوقه غطاء أبيض مطرز باللون نفسه.
وحاولت أن أروي له من أوراق كتبتها تفصيل ما دار بين’ كيسنجر’ وبيني وأهمها مخاوفي من أن مشروعه لحل الازمةخطير( خطوة بعد خطوة- والبلاد العربية المعنية واحدة بعد واحدة- وأية مفاوضات لابد أن تجري تحت إشراف أمريكي لا دور فيها للاتحاد السوفيتي ولا لأوروبا إلا عندما يحل دور المراسم والتشريفات)- وأبديت أن’ كيسنجر’ نفسه يصعب الاعتماد عليه لأنه بالضرورة منحاز وانحيازه طائفي وفكري وسياسي محكوم بصراع الحرب الباردة وليس بسلام عادل في صراع الشرق الأوسط.
وكان رد الرئيس’ السادات” أن’ كيسنجر’ هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينجز المهمة فهو الساحر الذي أنهي حرب فيتنام وفتح باب الصين والذي لا يتفاوض حتي في الاتحاد السوفيتي إلا مع الزعيم’ ليونيد بريجنيف’ ولا أحد غيره’. ثم إن كون كيسنجر يهوديا يجعله مهيأ للضغط علي إسرائيل إذا اقتنع وهو( أي الرئيس السادات) واثق من قدرته علي إقناعه وفي ذهنه تصور كامل لماينوي أن يعرضه عليه.( ولم يدخل في التفاصيل).
وخرجت من قصر الطاهرة يومها شاعرا بأنها نهاية النهاية وعلي أن أحدد موقفي.
وكتبت مجموعة مقالات كنت أعرف مسبقا بأنها لن ترضيه( وقد صدرت فيما بعد علي شكل كتاب بعنوان’ مفترق الطرق’).
وكانت بالفعل مفترق طرق- أقولها بشيء من الحزن مازال معي حتي الآن يقينا بأن فرصة لا مثيل لها تضيع وهي لاتلحق به مظنة الخيانة,( كما يري البعض) لكنها تكشف عن أن الرجل تعامل مع المجهول مراهنا علي تصوراته الخاصة في ظروف لاتحتملها الحقائق يومها ولا التقويم الموضوعي للمواقف,
وكانت مخاوفي غالبة.
وفي الوقت نفسه فقد داخلني إحساس قوي بأن هذه التوجهات الجديدة تضع’ شرعية أكتوبر’ علي طريق صدام مع’ شرعية يوليو’ ومع أن’ يوليو’ كانت في حاجة إلي مراجعة فإن الصدام يصعب اعتباره مراجعة وقد قلت ذلك بنفسي للرئيس’ السادات’ عندما شاء بسماحته أن يعاود الاتصال بي وفعل ذلك فجأة صباح يوم في أكتوبر1974 بعد قطيعة تسعة شهور وبعد أسابيع وصل إلي حد أن عرض علي منصب نائب رئيس الوزراء في وزارة السيد’ ممدوح سالم’ وكذلك قلت بنفسي للسيد’ ممدوح سالم’ في مكتبه في وزارة الداخلية- ما مؤداه إنني أري أمامي شرعيتين متصادمتين دون أن أقتنع بمبرر أو سبب وكنت أتصور أنه يمكن البناء علي الايجابي لشرعية سابقة يضاف إلي منجزات شرعية لاحقة, وذلك يصحح ويرفع ولا ينقض أو يزيح, وإنه إذا كان هناك تصادم بالفعل بين شرعيتين فإن اختياري معروف وموقعي محدد, كانت شرعية أكتوبر تملك انتصارا لاشك فيه ولكنها في الوقت نفسه قادرة علي الاستناد إلي ما لا يقبل الجدل من شرعية يوليو( الثورة ـ تأميم قناة السويس ـ بناء السد العالي ـ مشروعات التصنيع ـ الحقوق الاجتماعية للعمال والفلاحين وهم أغلبية الشعب حتي بالعدد إلي جانب اخراج الاستعمار البريطاني والفرنسي من شرق العالم وغربه, وايقاظ مشاعر أمة وتحريك إرادتها).
ولا أملك غير أن أقف ورء ما اقتنعت به- صوابا كان أو خطأ- لأن الخلاف لم يكن مجرد تباين في وجهات النظر وإنما كان’ مفترق طرق’ حقيقيا ونهائيا ـ لادخل فيه لعامل ذاتي ـ لأن الرجل علي المستوي الانساني كان شخصية جذابة ومثيرة.
وفي الحقيقة والواقع أن موضوع الخلاف بيننا صدر عن رؤي مغايرة وأحيانا متناقضة.
* كان اعتقادي- ولايزال- أن أي إنجاز عسكري عظيم يتحول إلي استعراض بطولي بالدم والنار- ما لم تستطع كفاءة السياسة تعزيز وتوظيف فعل السلاح ومن ناحيته فإن’ أنور السادات’ بحقه الرئاسي وشجاعته في اتخاذ قرار القتال تصرف باعتقاد أن ما تحقق في الميدان يعطيه فرصة مناورة أوسع ومع الولايات المتحدة الأمريكية بالذات وفي حسابه أنها- تملك مفاتيح الحل أو99% من الأوراق كما أعلن أيامها.
* وكان خوفي- وإلي الآن- أن الأمة بكاملها وشعوب الدنيا حتي بمشاعرها- أضافت إلي تلك المعركة من مواردها وجهودها وأعصابها واهتمامها ما لا تسهل تعبئته مرة أخري وعليه فإن الصمت’ مستحيل’ خصوصا إذا جاء من رجل شاءت له الظروف أن يكون في قلب الوقائع- مشاركا وليس متفرجا- كل ما يهمه الحصول علي خبر أو الانفراد بسبق!
* وكان الأصعب والأقسي شعور جازم وملح بأن طريقة إدارة العملية السياسية بعد المعركة العسكرية سوف تضبط أحوال المنطقة وتمسك بتوازناتها لخمسين سنة قادمة علي الأقل لأن أطراف الصراع أعطوا قصاراهم ووصلوا إلي الحافة فإذا استطاع أحدهم في لحظة حرجة دفع الآخرين إلي السفح- فقد سيطر علي الساحة وأملي إرادته علي المستقبل!
* وكان قلقي أن إدارة العملية السياسية بعد القتال سوف تكون معيارا متوازنا- سياسيا وأخلاقيا- لكرامة السياسة المصرية وتوازن خطها فليس يعقل أن يكون سلاح الحرب- بما تحقق من نصر- عالميا( سوفيتيا- أوروبيا) بنسبة99% ثم تسلم أوراق الحل السياسي بعده بنسبة99% إلي مشيئة أمريكية تتسيد وتستولي.
* وأخيرا- كان جزعي أن نفس طريقة إدارة العملية السياسية خصوصا إذا تنازلت إلي حل منفرد بين مصر وإسرائيل- سوف تؤدي إلي عواقب بعيدة المدي من النواحي الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وربما يتحقق مطلب عزل مصر في حصن ركن معزول من شمال شرق أفريقيا- وتنفرد إسرائيل بالمشرق العربي- قوة رئيسية في غرب آسيا وذلك هو المطلب البعيد المدي للفكرة الصهيونية وأصدقائها.
……………….
……………….
ومن الأمانة أن أذكر في هذا الموضع أن’ عبد المنعم رياض'( شهيد مصر الشجاع)- ذلك الجندي المتميز الذي تولي الإشراف علي رسم الإطار الأولي لخطة أكتوبر1973- رأي- ولعلها الرؤيا ومبكرا جدا ـ جوهر الحقائق السياسية الكامنة في الأزمة ـ واستوعب شروطها الواجبة ومازال صوته في سمعي ـ ونحن نمشي بعد الظهر ذات يوم في الغابات المحيطة بقصر’ زيدوفا’ قرب موسكو ـ يقول ما مؤداه:’ أن المعركة القادمة ـ مهما كانت حدود ميدان القتال ـ ليست معركة العودة إلي’ سيناء’ أو’ الجولان’ وإنما هي معركة المستقبل’ ويضيف:’ إنها ليست معركة في المكان المحدود وإنما معركة في الزمان غير المحدود’.
وكان’ عبد المنعم رياض’ شبه ملهم فيما قال- ولمن شاء أن يستوثق كيف كان ذلك الجندي المستنير بعيد النظر- أن يقرأ الكتاب الأخير لـ’ هنري كيسنجر’ وهو بكامله نصوص حرفية لتسجيلات صوتية للأحاديث التليفونية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكية أيام حرب أكتوبر1973.
وقيمة الكتاب أنه وثيقة أصلية سجلت في الثانية واللحظة( حتي بالنكات والشتائم)- وهي تزيح الستار بالطول والعرض عن حقيقة ما جري- وليس لدي مجال لشك في أن هذه الوثيقة وما فيها مما سقط عنه حجاب السرية أخيرا قبل أسابيع- هي الكلمة الأخيرة النهائية والحاسمة في قضية السلاح والسياسة- أكتوبر1973.
علي أنه من سوء الحظ أن’ عبد المنعم رياض’ رحل قبل أن يجيء الظرف الذي تحسب له مبكرا- دون أن يعيش ويتأكد من صدق ما رأي بالبصر والبصيرة من أمر تلك العلاقة بين السياسة والسلاح!.
(وعلي الهامش فإن أي قارئ مدقق للكتاب الوثيقة سوف تلفت نظره محادثة تليفونية مسجلة بين وزير الخارجية’ هنري كيسنجر’ ووزير الدفاع’ جيمس شيلزنجر’ دارت وفي الساعات الأولي التي تأكد فيها نجاح الهجوم المصري والسوري(6 أكتوبر1973) بأكثر مما كان متصورا أو متوقعا أو محسوبا.
علي صفحة29 من كتابه التسجيلي للأزمة يرد نص المحادثة التالية بين هنري كيسنجر وزير الخارجية وجيمس شيلزنجر وزير الدفاع.
يوم7 أكتوبر1973 الساعة3.45 بعد الظهر:
كيسنجر ـ تكلمت مع الرئيس الآن صدمة الهجوم المصري ـ السوري عن ضرورة إمداد اسرائيل بكل ماتحتاجه أيا كان بدون أن يكتشف أحد حقيقة مانقوم به.
شيلزنجر ـ لاأستطيع أن أضمن ذلك في الظروف الراهنة, لأن الجميع متنبهون.
كيسنجر ـ ولكننا فعلنا ذلك سنة67 ولم يستطع أحد أن يكشف السر حتي الآن وعلي فرض أنهم عرفوا فذلك لايهم لأن اسرائيل في خطر.
شيلزنجر ـ هل أنت مستعد لاستعمال حاملات الطائرات؟!
كيسنجر ـ ليس هذه الساعة ولكن مجموعة الحاملات لديها الأمر بأن تتحرك نحو شرق البحر الابيض.
ومع أني عشت لأري- وأختلف وأبتعد فقد ظلت تحكمني في هذا الموقف وغيره- وقبله وبعده- قاعدة لا تقبل التجاوز ملخصها أنه:
’من حقي ومن حق غيري أن نطرح آراءنا وندافع عنها, لكن الكلمة الأخيرة بالتأكيد ملك المسئول الشرعي المكلف بها فإذا وصلت الخلافات إلي درجة لا تحتمل فليس أمام أي صاحب رأي إلا أن يقف ويرفع صوته ليسمع ويرفع يده ليبين مكانه’.
وكذلك رفعت صوتي ورفعت يدي وتركت موقعي في الأهرام دون أن يخطر ببالي هاجس الانصراف من الساحة, بل كان العكس هو الصحيح فقد وجدت نفسي أواصل الكتابة خارج مصر في مواجهة حسبتها قدرا مقدورا, موضوعها دور السياسة بعد السلاح في حرب أكتوبر1973- وكنت أقدر أنني سوف أتعرض لحملات جامحة.
وعاهدت نفسي من وقتها وإلي الآن ألا أرد علي أحد مهما كان القول, وأيا كان القائل, وكثيرا ما ذكرت نفسي ـ تلك الأيام وبعدها ـ بحكاية رواها لي السير انتوني ناتنج وزير الدولة البريطاني الأسبق, الذي استقال من وزارة انتوني إيدن ابان حرب السويس1956, احتجاجا علي تورط رئيس الوزراء انتوني إيدن ـ الذي خلف تشرشل علي رئاسة المحافظين ورئاسة الوزارة ـ في مؤامرة سرية للعدوان الثلاثي علي مصر, شريكا فيها لرئيس وزراء فرنسا جي موليه ورئيس وزراء إسرائيل دافيد بن جوريون!
كان ناتنج عند أول الحكاية التي سمعتها منه ـ سياسيا صاعدا وعضوا مستجدا في مجلس العموم, ورأي أن يذهب لمقابلة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل وهو يعرفه صديقا لوالده اللورد ناتنج الكبير وضيفا علي قلعة الأسرة في إسكتلندا. وكان غرض النائب الشاب الصاعد أن يسمع من صديق الأسرة الأسطوري نصيحة تنفع مستقبله.
ورد تشرشل بإنه سوف يجيب بلغة الطير, عارفا أن والده من هواة مراقبة الطيور, ثم تكلم السياسي المجرب العجوز:
استغل كل طاقتك وإرادتك حتي تقوي جناحك ليحملك إلي الفضاء العالي, حيث تحلق النسور ـ هناك الحرية وهناك الخطرـ إذا لم تستطع فلا تسمح لنفسك تحت أي ظرف بطلب الأمان في قفص ببغاء تنطق برطانة يدربونك عليها( في الحزب), ثم يكون دورك أن تكررها وتعيدها كلما مروا عليك, وطلبوا منك أن ترقص وتغني حتي يراك السيد( زعيم الحزب) ورفاقه, وربما أبناؤه أيضا ـ وقد يصفقون لك, ويضحكون, ثم يتركونك حيث أنت ويذهبون ومعهم بسمة من تسلل وتله
وفي حكاية ناتنج أن تشرشل نظر إليه في عينه بعد أن أنهي درسه, ثم صاح فيه نسر إذا استطعت ـ ببغاء أبدا مهما تحملت!
وأقر بأن تلك الحكاية التي رواها لي أنتوني ناتنج عادت من حافظتي إلي ذاكرتي في مواجهة ما تعرضت له من حملات تلك السنوات من السبعينيات, ولعلها كانت مؤثرة علي حين اخترت الصمت عزوفا عن مشادات وجدتها إهدارا للحبر بلا معني, واستهلاكا للورق دون جدوي!
واكتفيت بأن قلت كلمتي ومشيت, وخطاي علي الأرض ـ لا فضاء النسر, ولا قفص الببغاء.
وكانت تلك مرحلة أخري من العمر, وكنت وقتها في الخمسين!
******
عن موقع الاهرام
4 شتنبر 2013 |
الآراء الواردة أدناه لا تعبر عن رأي موقع مدونة : نشرة المحرر - Nachrat Almouharir، بل تعكس وجهات نظر أصحابها فقط.
عبر عن رأيك