إن كل إشكالية عامة تقوم حول تصور أساس يرتبط بها، فإذا كان ذلك التصور بالنسبة للمنطق مثلا هو الزوج : صورة – مادة، وبالنسبة لمبحث الأنطولوجيا هو الزوج : جوهر – عرض، فإن التصور الأساس للإشكالية العامة لنظرية المعرفة هو الزوج : ذات – موضوع. كل نظرية من نظريات المعرفة حاولت أن تموقع المعرفة في علاقتها بهذا الزوج، وذلك بالرجوع إما إلى المنطق أو إلى السيكولوجيا أو إلى الانطولوجيا[2[. تتساءل نظرية المعرفة إذن عن إمكانية معرفة الذات للموضوع، وإن هي أثبتت تلك الإمكانية تبحث في أدواتها ثم في حدودها ومدى صلاحيتها، إنها تبحث في طبيعة المعرفة ووسيلتها و قيمتها.
فكيف تصورت هذه النظرية موضوعها “المعرفة”؟ وما هي حدود هذا التصور؟
غير أن الحديث عن بياجيه، في نظر الكثيرين من الباحثين في مجال الإبستمولوجيا، حديث يدعو إلى إعادة النظر في ما كان يعرف بنظرية المعرفة و في نظرتها إلى المعرفة كموضوع للتفكير، ترى أي جديد حمله بياجيه في هذا الصدد؟
لقد حاول بياجيه أن يؤسس لنظرة جديدة إزاء المعرفة، نظرة حاولت البحث في الميكانيزم الفعلي الذي يخضع له إنتاج المعارف، وهو الأمر الذي لم تبحث فيه نظرية المعرفة طوال تاريخها، ذلك أن هذه النظرية ظلت، قبل أبحاث بياجيه، تتأمل من خارج الشروط القبلية التي تضمن إمكانية المعرفة، و أخذت تتحدث عن عملية المعرفة من خلال أسئلة لم تكن نابعة من صميم المعرفة ذاتها، فقسمت عناصرها إلى ذات عارفة ثم موضوع معرفي، وهو التقسيم الذي اعتبره “ألتوسير” وهميا لأنه تم من خارج المنطق الذي يحكم المعرفة، في هذا الصدد يقول ألتوسير:” نفترض هنا ذاتا و موضوعا وهميين يكون عليهما أن يأخذا الظروف الحقيقية والميكانيزم الفعلي لتاريخ إنتاج المعارف كي يخضعاهما لغايات دينية، أخلاقية وسياسية”[3[ .
الأكيد، أن بياجيه، سيفطن إلى ما نبه إليه “ألتوسير”، وسيحاول تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، باحثا في المنطق الذي يحكم المعرفة من الداخل في إطار نظرة سيكولوجية حول هذه المعرفة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح : إلى أي حد بقي بياجيه نفسه في مأمن من “الإيديولوجي”؟؟ كيف نفسر رفضه إدخال كل ما هو “اجتماعي” في تفسير انبناء المعرفة و تشكلها؟ هل يرجع ذلك فقط إلى الميكانيزم الداخلي لهذه المعرفة؟ أم أن الأمر يعود إلى اعتبارات أخرى من خارجها، اعتبارات خضعت هي الأخرى لما هو إيديولوجي ارتبط باللحظة التاريخية التي أفرزت بياجيه وأبحاثه حول المعرفة؟
أسئلة من بين أخرى، كثيرة، ستطرحها تأملات لاحقة حول المعرفة و خباياها، خاصة مع رواد “التفكيكية”، في إطار تشريح جينيا لوجي للمعرفة سيكشف الغطاء عن تلك الخبايا و رهانات السلطة التي تحكمها، على حد تعبير ميشيل فوكو[4[.
[1] – عبد السلام بنعبد العالي و سالم يفوت،(1985)، درس الإبستيمولوجيا ، دار توبقال للنشر، البيضاء، ص. 11
[2] – المرجع نفسه. ص. 12.
[3] – Althusser(L)‚ Lire le capital ‚ op. Cité T1. p.66.
-[4] ميشيل فوكو، المعرفة و السلطة،ترجمة عبد العزيز العيادي، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت.
الإثنين, 19 أيار 2014
الآراء الواردة أدناه لا تعبر عن رأي موقع مدونة : نشرة المحرر - Nachrat Almouharir، بل تعكس وجهات نظر أصحابها فقط.
عبر عن رأيك