في منتصف يوم صيف حارق، تتسابق الطيور على ضلال واجهات جدران منازل حي الشاب عبد المنان الهش. بحذر شديد، تقفز في لمحة بصر لتمتص قطرات من المياه العادمة الراكدة في مجرى حفرته معاول الأسر لتيسير امتداد جريان المياه إلى صمام الصرف الصحي في الشارع الرئيس، ثم تعود متضامنة مشرئبة كل مناحي منافذ حركية الساكنة المعتادة، مراقبة نبضات الأمواج الصوتية، وارتفاع حدتها انطلاقا من نقطة انبعاثها الأولى.
بنصف دورة مقود، ولجت سيارة رونو 4 العجيبة، بنية اللون، زنقة ضيقة متجهة صوب باب منزل عبد المنان الذي يبعد بخمسين متر تقريبا عن بدايتها، ونفذت فيها بزفراتها وتزميراتها، مشهرة وصول راكبيها. تسلل خبر وصول الزوار إلى الأسرة بسرعة فائقة، لتطلق للا منانة، الأم الحنون الفاضلة، زغرودة فرح عارم. ازدادت دقات قلب عبد المنان، أصغر إخوته، فهرع إلى جانب من خزانته. انتشل حلة أعدها لهذه اللحظة المصيرية. لبسها بسرعة، بلل شعره بالماء ومسحه ودهنه بزيت نبات الخرواع، ولبس خذاءه الملمع الذي خبأه في مكان آمن. خرجت الأسرة بكل أفراها مستقبلة عبد الجبار وزوجته وأبنائه الثلاثة، أم كلثوم وعزيزة وزهير.
توارى عبد المنان خلف أفراد أسرته، بعينين لامعتين، وبنظرات كلها ألغاز حب مربك، باعثا من وجنتيه تعبيرات شغف عذري يكاد يخنقه بمزيجه العاطفي الغريب الذي اختلطت فيه الذكريات بأفراحها وآلامها.
تذكر الزيارات السابقة التي كان الأب عبد الجبار يحتمي ويتعفف في تقبيله له، ولا يلامس خديه لمرات عديدة بسبب منظره البئيس وحلته الرثة وشعره الملتوي الوسخ.
تذكر كذلك الزيارة التي قلبت موازين حياته الطفولية، الزيارة التي نشب فيها أول حب له لعزيزة من أول نظرة. يومئذ، كانت الزيارة خفيفة جدا، توجه بعدها موكب معشوقته بعد ساعة فقط إلى القرية الأمازيغية في سفح جبل الأجداد، على ضفاف نهر المياه الباردة الصافية، التي تشق حقول ضيعات البرتقال والفواكه المختارة، المحروسة بألغام خمائل مخيفة. غادر النوم جفون العاشق الولهان. استيقظ في فجر اليوم الموالي، وعزم قطع أكثر من أربعين كيلومترا على الأرجل ليلتحق بنصف روحه بعدما تبادلا في اليوم الأول همسات نظرات العشق الدافئة.
بعد أكثر من نصف يوم مشيا على الأقدام، وصل إلى ولع المكان المقصود، وصعد إلى أعلى الجبل المقابل لمنزل جد معشوقته القروي المنفتح على سماء صافية. ركز محملقا ومصوبا نظراته على بهوه الواسع متتبعا لحركاتها وتحركاتها، لعل حدسها ينبئها بوجوده بالقرب منها. قفز واقفا عندما رأى ابنة الجد تعد الحمار لجلب الماء من الوادي. لم يصدق عينيه وقلبه، وبدأ يتلو سورة الشرح لعل الله ييسر له رؤية نجمته ترافق قريبتها لجلب الماء.
فعلا ما تمناه وقع. توجه الحمار إلى الباب متبوعا بمن داعبت عقله بدون انقطاع، ليستسلم للركض لاهثا للوصول إلى مجرى الوادي قبل وصولهما. تسمر في مكان بعيد نسبيا متظاهرا أن وجوده كان صدفة. وهي منحنية تضغط على قارورة الماء لتمتلئ، رمقته وتفاجأت بهذا الحضور غير المتوقع منادية إياه. امتلأت نفسه زهوا وهو يراكم خطوات مشيته المرتبكة نحوها. اقترب منها مبتسما، محملقا في محياها الساطع بنور البراءة والجمال، والمغمور بأسئلة تتطاير من عينيها، فمدت يدها اليمنى الناعمة لتسلم عليه وتحييه. التقى الكفان معبران عن تواصل مشاعري طامع في سرمدية لا تقام، وارتعش الجسمان واحمرت الوجنات. حدة حبه وولعه أبكمته. لفته الخشية والحيرة، ولم ينبس ببنت شفة. لم تنبس هي الأخرى بكلمة إضافية بعدما أردفت مترنمة بعبارة “إلى اللقاء، سلم على أفراد أسرتك”.
قابل عبارتها الرقيقة ببسمة عذبة ناطقة بعبارات ولع منسابة على مقلتيه. بصوت رخيم، سرب إلى دواخلهما إحساس لذيذ من شدة تعلقهما بتوالي براهين الشغف، ثار على لسانه، محركا يديه الطريتين البضتين يمينا ويسارا، وآثار الفراق المحزنة تكتنف حواسه، ونفحات الحب المدوية عمت المكان بنواح أرواح العاشقين، لوى عنقه وصوب نظراته بعناية لاقطا صورة واضحة لجسدها الناعم وجمالها الخلاب، ثم قال متلعثما بصوت عال: “جئت لرؤيته وسأعود توا إلى مدينتي راجلا”، ثم اختفى حشمة، منتفضا على قلبه لوما وعتابا، وغلى دمه ندما على عدم إفصاحه على حبه لمعشوقته. لفته الخشية من غضبها أو عدم تفهمها لجملته المشحونة ولعا، اغرورقت عيناه دموعا بعدما طافت أمامه عواقب الجرأة غير المحسوبة، ليواصل طريق العودة.
هذه المرة أصر أن يكون في أتم الاستعداد لتفادي هفوات الماضي الأليم. من وراء الوفد المستقبل، خطى خطوات إلى الأمام بابتسامة براقة مشرقة، وبمنظره الجميل وشعره النظيف المستف بعناية. تزامنت هذه الزيارة مع حصوله على الرتبة الأولى في امتحانات شهادة البكالوريوس علوم في إقليمه. زوده هذا التتويج بشجاعة بالغة وثقة عالية في النفس، ليتحول بذلك إلى أول المرحبين بالعم عبد الجبار. حياه بحفاوة سريعة، قبل أم كلثوم وزهير مبينا بصدق تعلقه بأواصر القرابة، ليعطي الوقت الكافي للتعبير عن شغفه المتراكم لمحبوبته بتحية تليق بالمقام والمكانة التي تحتلها في حياته اليومية منذ تولعه بحب النظرة الأولى. أخذها هذه المرة من يدها بشجاعة، وتقاسم معها فرح نجاحه في البكالوريوس. أحست وكأنها متلاحمة مع نصفها المفقود عبر اليدين، وتمنيا سويا في التحام أبدي، تمنوا لو يبتدئ للتو. تملصت من يده بإشراقة غير معهودة ولم تعش مثيلتها من قبل، قائلة له : “انتظرني للحظة”. دخلت وهمست في أذن أمها أنها ستخرج للتنزه مع عبد المنان للإطلاع على مرافق المدينة، فأجازت لها ذلك بعدما لمحت لزوجها فحوى الطلب، ليكتمل الترخيص وترتقي شرعية اللقاء.
هرع الاثنان، وسكرات الحب تفتك بخطواتهما لتقودهما بسرعة البرق إلى منزل أخته الفارغ. غابت الكلمات، افترشت الزرابي الناعمة في غرفة شاسعة، التحم الجسدان بقوة، وأطبق شفتيه على شفتيها في قبلة ايروتيكية بأبعاد نفسية تجاوزت إحساس العيش أرضا، وتبادلا بلسانيهما ولعابهما تعابير الحب والشغف المؤجلة. تقلبا متلاحمان من الطرف الأيمن للغرفة إلى طرفها الأيسر. مرت الساعات بسرعة، تكررت الدقات على الباب، لتقابلها اللامبالاة وكأنها تقع في عالم آخر. بعيونهما المغمضة طوقا بعضهما البعض بذراعيهما، ونفذ كل واحد منهما بشدة خارقة في ذات الآخر ومخيلته. أما النهدان المتنطعان فتحولتا إلى بركانين تنبعث منهما زخات حمائم الحب العارم. التصق صدره على صدرها الريان وشكلا كائنا روحيا فاتنا بجسد ذكوري ولهان وتضاريس أنوثة مثيرة، ليتطاير منه بريق خلاب بهبة كرامة حب لم يعهدها العاشقون من قبل.
لقد تحول الحب بينهما مع مرور سنوات الكدح والمثابرة إلى جنون خالص بمكنون روحين طاهرتين. تنامت دواخلهما مشاعر حياة جديدة، وأينعت بها ومنها فروع زاهية، الأولى جسدت جاذبية الفل، والثانية بهاء الياسمين، والثالثة فتانة النرجس. شيدا صرحا مغمورا بنيران الوجد، وعواصف الأشواق أثناء فترات الغياب الاضطرارية التي لا تحتمل. تحول الخلف إلى سفراء للحب مستهزئين أينما حلوا وارتحلوا من القصيدة الشعرية لأبي العلاء المعري:
هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد
ثلاثةُ أيام هى الدهرُ كلهُ وما هنَّ غير الأمس واليوم والغد