على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق الثقافية، نسلم هنا بأنّ للكونية تاريخًا، وبأنّ الفكر أصبح، ولأول مرة في التاريخ، وبفضل سيادة التقنية فكرًا كوكبيًّا planétaire، وهذا، ليس لافتراض كونية ميتافيزيقية، وإنّما للتغيّر الذي لحق بمفهوم الوجود ذاته، بفضل اكتساح التقنية، فأصاب، تبعًا لذلك، مفهوم العالم.
ذلك أنّ ما جعل من العالم اليوم «قرية صغيرة»، وما يطبعه من انتشار موحَّد لنماذج التنمية والتصاميم والمخطّطات وتطوّر أدوات التواصل واكتساح الإعلاميات لكل الحقول، وفرض مفهومًا جديدًا عن الزمان، إنّ كل هذا لا يخصّ منطقة من المناطق دون أخرى. فالكوكبية لا هوية لها، بل إنّها هي التي تدخل اليوم في تحديد كل هوية. على هذا النحو يصبح الانخراط فيها ليس وليد قرار إرادي تتخذه ذات سيكولوجية أو ثقافية، وإنّما هو قدر تاريخي يرمي بإنسان اليوم في الكون، وبالثقافة في الكونية.
هل يتبقى، والحالة هذه، معنى لمفهوم عن العالمية يتميز عن هذه الكوكبية؟ تمهيدًا للجواب على هذا السؤال لا بأس أن نستحضر استعمالاً لهذا المفهوم ورد عند ” غوته “في تحديده لما أطلق عليه «الأدب العالمي» .Weltliteratur لا يقصد “غوته” بهذا المفهوم مجموع الآداب الماضية والحاضرة التي من شأن نظرة موسوعية أن تستحضرها، وهو لا يكتفي بأن يؤكد أنّ الأدب القومي يتسع ليحتضن آدابًا أجنبية، كما أنّه لا يعني بالأحرى، مجموع الأعمال الكبرى التي استطاعت أن ترقى إلى مستوى الشمولية وتغدو تراث الإنسانية المتحضرة. «الأدب العالمي» عنده مفهوم تاريخي يهمّ الوضع الحديث الذي تتخذه العلاقة بين مختلف الآداب القومية. فعصر «الأدب العالمي» هو العصر الذي لا تكتفي فيه الآداب بالتفاعل فيما بينها، بل تدرك وجودها هي في إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد. إنّه العصر الذي تُدرَك فيه الخصوصية بدْءاً على أنّها خروج وانفتاح.
ينطوي هذا المفهوم إذاً على نظرية في الذات والآخر، نظرية في الهوية والاختلاف، بمقتضاها يشكل خروج الهوية عن ذاتها مكوّنًا أساسيًّا للهوية، ويغدو إدراكها لذاتها إدراكًا متحوّلاً مشروطًا بتفاعلها اللامتناهي مع آخر.
على هذا النحو يغدو عصر العالمية هو العصر الذي لا تكتفي فيه الثقافات بالتفاعل فيما بينها، بل تدرك وجودها وتعي نفسها في «إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد». إنّه العصر الذي تعي فيه الثقافة نفسها أساسًا أنّها خروج عن ذاتها.
يتميز هذا الخروج المرغوب عن «إخراج» آخر لا تملك الثقافة أمامه حيلة، فتنصهر وتذوب من حيث هي خصوصية كأن تغدو في قبضة الوسائط الإعلامية، ها هنا، كما كتب كونديرا : «بما أنّ وسائل الإعلام غدت عوامل لتوحيد تاريخ كوكب الأرض، فإنّها تضخم عملية الاختزال وتقننها، وتنشر في العالم كله التبسيطات نفسها، والصيغ الجاهزة ذاتها التي يمكن أن تقبل من طرف أكبر عدد من الناس، من طرف الكل، من طرف الإنسانية جمعاء.» لا يتعلق الأمر هنا بخروج، وإنّما بإخراج، بل بتبسيطات تتوخى التوحيد ورد الثقافات إلى صيغ مختزلة بهدف صهرها وقتل الاختلاف بينها. وعليه، فليس من المهم كثيرًا أن يتجلى اختلاف الخصائص الثقافية وتضارب المصالح السياسية في مختلف الوسائل الإعلامية. «فوراء هذا الاختلاف السطحي تسود روح مشتركة. ويكفي المرء تصفح الأسبوعيات السياسية الأمريكية أو الأوروبية، اليسارية منها أو اليمينية، من صحيفة التايمز إلى صحيفة شبيغل، ليجد أنّ لديها الرؤية نفسها عن الحياة التي تنعكس في الترتيب نفسه الذي تنتظم وفقه فهارسها، في الأبواب ذاتها للمجلة، في الأشكال الصحافية نفسها، في القاموس اللغوي عينه، في الأسلوب ذاته، في الأذواق الفنية نفسها، وفي التراتب نفسه لما تجده مهما ولما تجده عديم الأهمية. إنّ هذه الروح المشتركة بين وسائل الإعلام الثاوية خلف تنوعها السياسي، هي روح عصرنا».
تتجاذب عصرنا إذا ثقافتان : ثقافة جارية نحو التوحيد تجعلنا نتغذى الغذاء ذاته، ونرى الصورة عينها وننفعل الانفعال نفسه، ثقافة تكرس مظاهر متشابهة، وأذواقًا متطابقة، وإحساسات وانفعالات موحَّدة، وأخرى تسعى بفعل التفاعل بين الخصوصيات إلى أن تحقق كيفيات أصيلة للمساهمة في العالمية، فتجعل الخصوصية تنطوي على تعدد.
فبينما تتحدد الثقافة المعولمة ضمن علائق قوة تتحكم فيها سيادة أنموذج قاهر يفرض قيمه وأساليبه ولغته، فلا تكتسب القيم مشروعيتها إلا عبر هذا الأنموذج وبفضله، فإنّ الثقافة العالمية تجعل «كل ثقافة تدرك ذاتها في إطار تفاعل لا يفتأ يتزايد». العولمة تخضع لآلية توحيدية، أما العالمية فترعى التعدد. العولمة سلب للخصوصية وقضاء عليها، في حين أنّ الخصوصية تدرك في الثقافة العالمية على أنّها تفاعل لامتناه. لا يعني ذلك أنّ الثقافة العالمية لا تحيا في حضن علائق قوة. لكن شتان بين علائق يعمل فيها الاختلاف عمله، وبين أخرى تخضع لتوحيد نمطي يخضع للتسوية Nivellement ويُستبعد فيه كل اختلاف.