مدخل:
مفهوم نظريّة الأدب: تُعرف نظريّة الأدب بأنّها “مجموعة من الآراء، والأفكار الواضحة والمتسقة والعميقة والمترابطة والمستندة إلى نظريّة في المعرفة أو فلسفة محددة، تهتم بالبحث في نشأة الأدب، وطبيعته ووظيفته، وهي تدرس الظاهرة الأدبيّة بعامة من هذه الزوايا في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامّة تبين حقيقة الأدب وآثاره”، فنظريّة الأدب هي التي تشكل الخلفيّة النظريّة لمناهج النقد الأدبي عموما, ولكن يجب التأكيد على أن كل نظريّة أو منهج نقدي أدبي له فلسفة محددة ورؤى ومبادئ متسقة، فليس كلّ الآراء التي تتناول الأدب أو جوانب منه بالدراسة تعدّ نظريّة للأدب، (1).
ارتباط الأدب بالواقع:
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سادت نزعة أدبيّة تدعو إلى ربط الأدب بالحياة أو المجتمع, واصطلح على تسميتها بالأدب الواقعي، وكانت أبرز تلك الجهود ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي “هِيبُولِيتْ تِين” الذي حاول إخضاع الأدب والفن إلى أسس ماديّة مستقاة من المجتمع تعكس حقائق مؤكدة ومحددة، حيث يرى أن الأعمال الأدبيّة ينبغي أن تفهم على أن هنالك ثلاثة عوامل تؤثر في الأدب وهي: (الجنس – البيئة- الزمن).
فبالنسبة للجنس/ العرق: فهو يكتسب الخصائص المميزة له من البيئة الطبيعيّة والعادات والتقاليد المتوارثة والأحداث التاريخيّة التي مرت بها هذه الأجناس .فضلاً عن الدوافع والرغبات الدفينة التي تلعب دوراً هاماً فى صياغة الفعل الإنساني وتطويره.
وبالنسبة للعصر: وهو العامل الثاني الذى يحدد شكل ومضمون الأدب ـ كما أشار “تين” ـ فقد قصد به الأفكار والمفاهيم الإنسانيّة المسيطرة على روح العصر المنتج للعمل الأدبي.
وأخيرا يأتي دور البيئة: كعامل أساس فى تحديد شكل ومضمون الأجناس الأدبيّة. وتعني البيئة أشياء كثيرة كالمناخ والجغرافيا الطبيعيّة والنظم الاجتماعيّة التي تحتضنها هذه البيئة .
كما كانت هناك محاولة الأديب الروسي “تولستوي” الداعيّة إلى فن يسعد الجماهير الفقيرة على وجه الخصوص, منطلقاً من وعيه بأهميّة العلاقة بين الأدب والقراء عامة دون تمييز طبقي.
لقد كانت تلك الأفكار السابقة بشكل عام, تعتبر إرهاصاً أوليّاً للاهتمام بالعلاقة بين الأدب والمجتمع في الدراسات الأدبيّة من جهة، وتركيزاً على وظيفة الأدب من جهة ثانيّة.(2).
وما “نظريّة الانعكاس” في النقد الأدبي كما سيمر معنا لا حقاً, إلا إحدى هذه النظريات النقديّة التي أثبتت أن للأدب فعاليته الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة وغير ذلك من قضايا المحيط الخارجي التي تؤثر في الأدب وتتأثر به. وبالتالي فوظيفة الأدب وفق هذا المنهج أو النظريّة, ليست المتعة الجماليّة أو المهارة اللغويّة فحسب, بل إن الأديب يسعى لمشاركة المتلقي له في تجربته وهمومه وقضاياه وقضايا مجتمعه المصيريّة بشكل يؤدي إلى تغيير وجهات نظر المتلقي ذاته. والهدف من كل ذلك هو خلق نوع من الاتساق الفكري والشعوري من خلال الأدب في الموقف الجماعي بين أفراد الكتل أو الطبقات الاجتماعيّة بطريقة غير مباشرة.
نظريّة أو منهج الانعكاس:
هي إحدى النظريات في النقد الأدبي الحديث، وتعتمد في الكثير من أطروحتها وبشل مباشرًا على أطروحات مبادئ الماركسيّة في التحليل السوسيولوجي للظواهر بشكل عام ومنها قضايا الفن والأدب بشكل خاص، ويظهر من تسميتها (نظريّة الانعكاس) أنها تنظر إلى الأدب بأنه يعكس قضايا المجتمع الذي يتحدث عنه، فتجعل الأدب مرآة للواقع وللمجتمع. وتعتمد نظريّة الانعكاس, الفكر المادي التاريخي الجدلي الذي يقر بأن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي، ولكن هذا الانعكاس ليس آليًّا ولا متوازيًا ولا بسيطًا أو ساذجاً، كما يفهمه فيورباخ مثلاً في رؤيته للانعكاس عندما يقول: (إن الواقع يفرز الفكر كما يفرز الجلد مادة الأملاح). وإنما الانعكاس في حقيقة أمره هو عمليّة تفاعليّة معقدة بين الفكر والواقع, أي بين الأدب والواقع، فقد تكون الأعمال الأدبيّة الممثلة للواقع ممتثلة لهذا الواقع وتصالحيّة معه، أو تكون رؤية تجاوزيّه تسعى لتغيير العلاقات المجتمعيّة وهدمها؛ لبناء مجتمع أفضل.(. أو بتعبير آخر إن نظريّة الانعكاس تنظر إلى الأدب على أنه فعاليّة اجتماعيّة، وهو تجربة إنسانيّة هدفها من الأدب – في هذه النظرية – هو مشاركة الأديب بهذه التجربة التي يعرضها في عمله الأدبي، بحيث يؤثر في المتلقي، وشعوره؛ لكي يسهم في تغيير واقعه الاجتماعي نحو الأفضل. (3).
جورج لوكاش رائد نظريّة الانعكاس:
هو فيلسوف وكاتب وناقد ماركسي ولد في بودابست عاصمة المجر. يعدّه معظم الدارسين مؤسس الماركسيّة بصيغتها الغربيّة في مقابل صيغتها في الاتحاد السوفياتي آنذاك. لقد أسهم طرح عدّة أفكار جوهريّة في النظريّة الماركسيّة منها «التشيؤ» و«الوعي الطبقي» وهي تندرج تحت النظريّة والفلسفّة الماركسيّة. وكان نقده الأدبي مؤثراً في مدرسة الواقعيّة الأدبيّة وفي الرواية بشكل عام باعتبارها نوعاً أدبياً.(4).
يعتبر “جورج لوكاش” في الحقيقة من أشهر الذين تبنوا الرؤية الماركسيّة وطوروا فيها في مسألة الانعكاس, وهو الذي تعمق في العديد من المصطلحات والمفاهيم الماركسيّة إضافة إلى (التشيء والوعي الطبقي” فقد اشتغل مثلاً على: (البنيّة الفوقيّة، والبنيّة التحتيّة)، بالإضافة إلى أنه تحدث عن (الوحدة الشاملة), التي تعني أن الأدب لا يعكس الانطباعات الأوليّة للحس، ولا يكتفي بتصوير مظاهر الواقع، إنّما يصور عمقه وعلاقاته التي تُظهر وحدته الشاملة. كما اهتم “لوكاتش” بمفهوم “النموذج” الذي حاول من خلاله أن يطور دلالة الانعكاس، والنموذج يعني شخصيّة من الشخصيات التي تعد رمزًاً بصفة أو بأخرى مثل: سيزيف، والسندباد، وهاملت، وغيرها بحيث يستخدمها الأدباء بطرق مختلفة في الأدب فتصبح الشخصيّة رمزًا في الإطار العالمي. مثلما اهتم أيضًا بمبدأ (الالتزام) الذي يعد أحد المنطلقات الأساسيّة في نظريّة الانعكاس عنده، وهو علامة دالة على الفن الواقعي الاشتراكي الذي يتبناه، ويمثل مفهوم الالتزام موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا من الوقائع في زمن الكاتب. وكما يعدّ الالتزام أيضاً مفهومًاً حديثًاً في حقلي الأدب والنقد, إذ ظهر في العقود الأولى من القرن العشرين، التي شهدت تغيرات اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة بارزة ،شكلت منعطفات حادة في حياة الشعوب مثل: الحرب الكونية الأولى، والثورة الاشتراكيّة، والحرب الكونيّة الثانيّة, حيث تركت آثاراً مهمة في نظريّة الأدب والنقد، ويشكل الالتزام فلسفة جديدة للأدب، ويتصل بالواقع وعلاقاته المختلفة. (5).
علاقة نظريّة الانعكاس بالمنهج الاجتماعي:
إن الفكرة التي تقول بأن الأدب يعكس المجتمع ويصور الواقع الاجتماعي ليست بالفكرة الجديدة, بل هي قديمة ويعتبر “أفلاطون” من الأوائل الذين قالوا فيها بإشارته إلى مفهوم ( “المرآة التي توضع أمام الطبيعة لتمثل فكرة انعكاس الحياة فى الأدب. وكما استخدم “أرسطو” أيضا مفهوم المحاكاة حيث أكد على “أن الفنون بصفة عامة تعد محاكاة للواقع” وأصبحت هذه الفكرة مألوفة بعد ذلك في النقد الأدبي ابتداءً من عصر “شيشرون” الرومانى حيث استخدم مصطلح ” مرآة العادات ” أي أن الاعمال الفنيّة والأدبيّة تصور العادات والتقاليد المجتمعيّة” واستخدم هذا المفهوم أيضا “شكسبير” ” المرآة والانعكاس ” فى مسرحه حيث كان يؤكد على واقعية الفن الذى يجب أن يكون ـ على حد تعبيره ـ انعكاساً للحياة لا تحريفاً لها.). (6).
أما في تاريخنا الحديث والمعاصر, يمكن تعريف المنهج الاجتماعي وفقاً لنظريّة الانعكاس التي جاء بها: “جورج لوكاش” في النقد الأدبي الحديث بأنه: منهج نقدي دعت إليه الفلسفة الاشتراكيّة في الفهم الماركسي، ويهتم المنهج بدراسة المجتمع، كما يهتم بتتبع الأعمال الأدبيّة التي تصور المجتمع بخيره وشره، وتدعو إلى تقدمه وتنميته. ويمكن القول إنّ النقد الاجتماعي تأسس على مقولات وقوانين الفلسفة الماركسيّة كما أشرنا أعلاه, التي تفسر العلاقة بين الواقع الاجتماعي والأدب برؤى وأشكال مختلفة وفقاً لموقف الأديب ذاته، فيمكن أن ينظر النقد إلى النص الأدبي بوصفه وثيقة تحاكي المجتمع، ويمكن أن ينظر في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة, ليرى إذا كان العمل الأدبي يعكس هذه البنية أو يشوهها. ويمكن أن يربط بين الأديب وعمله الاجتماعي، أي بما حمله هذا العمل من مضامين اجتماعيّة، وبالتالي الوصول إلى حالة تأثير الأدب في المجتمع، ومن هذا يمكن الملاحظة بأن الناقد الأدبي قد يحلل النص الأدبي بطرق متعدّدة، وهذا يفتح مجالات واسعة في التحليل النقدي للأدب، وقد يجمع بعضها في تحليله للنص الأدبي للوصول إلى غايته.(7).
ما أهم سمات وخصائص نظريّة الانعكاس:
1- من خلال عرضنا السابق لنظريّة الانعكاس وعلاقتها بالمنهج الاجتماعي الذي يعمل على ربط الواقع بالفكر ومنه الأدب موضوع بحثنا في الأساس, نجد أنها – نظريّة الانعكاس – استندت على الفلسفة الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة بعكس الكثير من النظريات السابقة التي استندت على المثاليّة, وما يمثله من حدس, ورؤى ذاتية. وهذه الفلسفة الواقعيّة الماديّة ترى بأن الوجود الاجتماعي أسبق من الوعي, وأنه هو الذي يحدد أشكال ذلك الوعي. وهذا ما يميز هذا المنهج أو النظرية بحيويّتها وقدرتها على الاستمرار وتطور مفاهيمها بشكل مستمر, كونها ترتبط بالواقع وحركته وتطوره المستمرين, وبكونها تهتم أيضاً بكافة جوانب الظاهرة الأدبيّة.
2- تنطلق الفلسفة الماديّة الجدليّة والتاريخيّة من أن الوجود الاجتماعي يقوم على بنائين أكدهما “ماركس” في كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) وكذلك “لوكاش” هما: البناء التحتي الذي يقصد به (قوى وعلاقات الانتاج), الذي يفرز أو يحدد البناء الفوقي الذي يعني (الوعي) بكل تجلياته السياسيّة والقانونيّة والفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وغير ذلك. وإن العلاقة بين البنائين علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل. وإن أي تغيير في البناء التحتيّ يستدعي تغييراً في البناء الفوقي بالضرورة, ولكن ليس بشكل ميكانيكي, كقولنا: إن الفكر يعكس الواقع كما تعكس المرآة الشيء, وإنما هناك علاقة جدليّة معقدة من التأثير المتبادل بين البنائين, بحيث كل منها يؤثر في الآخر في السياق العام لسيرورة وصيرورة الأحداث .
3 – وعلى اعتبار الأدب شكل من أشكال الوعي, وهو من تجليات البناء الفوقي, فإن كل تغير اقتصادي واجتماعي, أو ما سميناه بالبناء التحتي, يستتبع تغيراً في الرؤية لمفهوم المجتمع واللغة والأدب, وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغير في الأشكال الأدبيّة من حيث الموضوعات والأساليب والأهداف، وهذا ما يؤكد بأن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي بكل مستوياته. يضاف إلى ذلك تأكيدنا بأن الأدب ذاته قادر أن يؤثر بالواقع ويحوله عبر حوامل اجتماعيّة تأثرت بدورها بهذا الأدب. فعلاقة التأثير هنا بين الأدب والواقع علاقة جدليّة. يقول “مارس في هذا الاتجاه: (أن الأدب والفن هما سلاح الطبقة, ففي المجتمع المنقسم إلى طبقات يعكس الأدب والفن بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة معنويات طبقة معينة، وآرائها السياسية وذوقها الجمالي.” (8).
4- لقد ارتبط بنظريّة الانعكاس مفهُومَ الالتزام بقضايا المجتمع وتنميته والرفع من سويته على كافة المستويات. وهذا الالتزام يتطلب من الأديب التعمق في تحليل العلاقات الاجتماعيّة وتبيان تناقضاتها وصراعاتها الداخليّة والخارجية وأسبابها وطرق معالجتها. من منطلق الالتزام بقضايا الفرد والمجتمع, التي يعيشها الأديب ذاته أو تحيط به. فالتزام الأديب يقصد به أن يكون أدبه هادفاً يحمل رسالةً تتفق مع قناعاته والمبادئ التي يحملها أو ينتمي إليها, وهي مبادئ إنسانيّة ثوريّة وتقدميّة تنتصر للطبقات الكادحة المسحوقة ورفع الظلم والقهر والتشيء والاستلاب عنها بالضرورة. وعلى هذا الأساس يمثل الأديب عضواً في الجماعة, وهذا ما جعل “لوكاش” يسميه بـ (المثقف العضوي)، وهو المثقف الذي تحمل أعماله الأدبيّة قناعاته ومبادئه التي تعبر عن طموحات الطبقة التي ينتمي إليها, وهي هنا القوى العاملة المسحوقة كما بينا أعلاه، وبالتالي فهو يسعى عبر علاقته وفهمه للواقع, أن يكشف الخلل في الواقع, وليقدم رؤية جديدة أكثر انسجاما من خلال عمله الأدبي, قصيدة كانت أو رواية.. إذن فالأديب في هذه النظريّة هو الأداة التي يُعبِّر من خلالها عن نفسه أولاً, وعن انتمائه الطبقي ثانياً. فطالما أن الأديب عضو في جماعة أو طبقة, فإن مشكلاته الخاصة هي جزء من مشكلات المجتمع, وهو حين يعبر عن هذه المشكلات يمزج الخاص بالعام والفردي بالجماعي ليعطي لتجربته شرط التواصل مع القراء. وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دور كايم” بأن الأدب ظاهرة اجتماعيّة، وإنه إنتاج نسبى يخضع لظروف الزمان والمكان، وهو عمل له أصول خاصة به وله مدارسه ولا يبنى على مخاطر العبقريّة الفرديّة فحسب، وإنما هو اجتماعي أيضا من ناحية أنه يتطلب جمهوراً يعجب به ويقدره. ). (9).
5- أما على مستوى اللغة, فالأديب يتعامل معها من منطلق أنها ظاهرة اجتماعيّة، وليس كما عرفها “دي سوسير” وكل من تبنى رؤيته في مناهج النقد الأدبي لما بعد الحداثة كالبنيويّة والتفكيكيّة وغيرها, على أنها نظامً مجردً من العلامات، ويتأسس هذا النظام على العلاقات التي ترتبط بها العلامات لتشكل نظامًاً أو بنيةً، وهي علاقات يشترك فيها كلُّ أعضاء الجماعة اللغويّة، وتمثل المخزون الذهنيَّ لهم.
إن الأديب وفق نظريّة الانعكاس مقيد بمستوى لغوي معين يحدده الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمرحلة التي يعيش فيها الأديب. وهذا الوضع ذاته هو الذي يفرض في نظريّة الانعكاس اعتبار المتلقي أو القارئ أيضاً ليس مجرد متلق للعمل الأدبي فحسب, بل ومشارك فيه بشكل غير مباشر في عمليّة الإبداع الفنيّة باعتباره جزءا ًمن المجتمع الذي يستقي منه الأديب مادته. وعلى هذا الأساس يصبح الأدب فعاليّة اجتماعيّة يشارك فيها القارئ والمتلقي معاً.
لا شك أن الأدب كما يقرر الناقد الأدبي التشيكي الأمريكي “رينيه ويليك” أنه: (نظام اجتماعي يصطنع اللغة وسيطاً له، واللغة إبداع اجتماعي, وإذا كان الأدب يمثل الحياة, فإن الحياة ذاتها حقيقة اجتماعيّة. فالكاتب المسرحي حينما يصور لنا كائنا إنسانيّاً كاملاً فهو لا يعيد تصوير الإنسان فقط بل يعيد تصوير المجتمع الذى ينتمى إليه هذا الإنسان. وهذا المجتمع ليس إلا ذرة من الكون, ومن ثمة فالفن الذى خلق هذا الإنسان يعكس لنا الكون كله.). (10). ومن الكتاب والأدباء العرب الذين أكدوا على أهميّة ربط الأدب والفن بالواقع هناك على سبيل المثال لا الحصر”طه حسين” و”أحمد أمين في كتابه النقد الأدبي” و”لويس عوض” وغيرهم.
إن وظيفة الأدب إذن ليست المتعة الجماليّة أو المهارة اللغويّة فحسب, بل إن الأدب يسعى لمشاركتنا في التجربة الأدبيّة التي ينتجها الأديب بشكل يؤدي إلى تغيير وجهات نظرنا وأفكارنا. والهدف من كل ذلك هو خلق نوع من الاتساق الفكري والشعوري في الموقف الجماعي بين أفراد الطبقة الاجتماعية بطريقة غير مباشرة من خلال الأدب ذاته.
إن وظيفة الأدب في نظريّة الانعكاس تتمثل في التنوير والتحفيز لفهم الحياة بطريقة أعمق، وبالتالي تحريك الإنسان ليساهم في تغيير واقعه الاجتماعي نحو الأفضل.(11).
تأثير المنهج الاجتماعي أو نظرية الانعكاس على النقاد العرب:
يعد المنهج الاجتماعي أو نظرية الانعكاس هو المنهج الوحيد الذي كتب فيه النقاد العرب بإسهاب وعمق, إن كان لدى الكتاب الليبراليين، كـ “سلامة موسى” و”محمد منذور “، حيث ربط “سلامة موسى” التقدم بالفكر الغربي، ورفض التراث العربي القديم والنقاد الذين يدرسون هذه النصوص القديمة، وأشاد بالأدب الإنجليزي لاتصاله بالحياة الغربيّة وتأثره بها. فهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتاب، وهذا خلافا لما نجده عند طبقة الأدباء التقليديين الذين يصبون اهتمامهم على الأسلوب الكتابي أكثر من أسلوب العيش. فالأديب على حد قوله: في هذا المقام يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ ولا يعنى بحياة الفلاح المصري، ولا يكتب عن مصر ونكباتها، فأدبه سلفي يجعله يعيش في عزلة، وهو هنا يشبه أدباء العرب في عصره بأدباء القرون الوسطى في أوروبا، تصوره هذا طبعا يرجع إلى توجهه اليساري وهو من المؤيدين للاشتراكيّة الدوليّة.
أما “محمد مندور” فقد نفى أن يكون الأدب مجرد وسيلة للترويح عن النفس فحسب, بل جعله في خدمة القضايا الاجتماعيّة، ويعتبر أن النقد الذي يهتم بالمضمون يجب أن يتجاوز الموضوع إلى المضمون، وما يفرغه الأديب من أفكار وأحاسيس في عمله. فالأدب والفن للحياة والمجتمع، لأن الأدب أصبح يستعمل لتطوير المجتمع، كما اهتم “مندور” بالجانب الجمالي والفني للأعمال الأدبيّة، فالأدب هو انعكاسات لحالات شعوريّة وانطباعيّة. وهو هنا يشير إلى أن الأدب – باهتمامه بالقضايا الاجتماعية – يكون ناقصاً إذا لم تكن هناك صياغة فنيّة وجماليّة لذلك الأدب, فالأدب بغير هذه القيم يفقد عنده طابعه المميز وفاعليته. إن النقد عنده يحمل وظيفة خلاقة. وغير بعيد عن هذا نجده ينتقد النزعة التاريخيّة في الأدب بحيث دعا إلى عدم الوقوف عندها حتى لا نصبح كمن يجمع المواد الأوليّة ولا يقيم البناء. (12).
هذا وهناك العديد من النقاد العرب الذين تأثروا بالمنهج الاجتماعي ونظريّة الانعكاس مثل الناقد المصري” محمود أمين العالم” – الناقد العراقي “فاضل ثامر”- الناقد السعودي ” عبدالله الغذامي” والناقد العراقي ” بشير الحاجم” – والناقد اللبناني ” محمد دكروب” – و الناقد اللبناني “حسين مروة”. (13).
نقد نظرية المنهج الاجتماعي, أو نظرية الانعكاس:
يعتبر دعاة نظرية “الفن للفن” من تيار ما بعد الحداثة من أهم الذين وقفوا ضد نظرية المنهج الاجتماعي أو نظريّة الانعكاس. معتبرين أن الفن ليس دوره هو الارتباط بقضايا الناس والتعبير عنها في الأدب أو الفن التشكيلي أو المسرح بشكل عام, وإنما يذهب دعاة هذه النظرية الى أن الفن فعاليّة انسانيّة ذاتيّة لها قوانينها الذاتيّة التي لا ترتبط بأي قانون اجتماعي أو أخلاقي. فالفن عند هؤلاء يكفي نفسه بنفسه ولا هدف له إلا ذاته, اذ ليس للفن والأدب غاية أو وظيفة اجتماعيّة أو أخلاقية, فوظيفتهما الوحيدة – إن كانت لهما وظيفة – هي اثارة الجمال.(14). وهذا ينافي الوظيفة التي تقول بها النظريّة الاجتماعيّة التي تعتبر الأدب والفن بشكل عام, هما مجموعة متنوعة من الأنشطة البشريّة الذهنيّة والعمليّة, تتوزع بين إنشاء أعمال بصريّة أو سمعيّة أو حركيّة، للتعبير عن مواقف المؤلف أو الفنان أو الأديب المفاهيميّة والمهاراتيّة الإبداعيّة من الحياة بشكل عام, أو من محيط حياته المعيشة بشكل خاص، والمقصود من كل ذلك أن تكون هذه الأعمال الابداعيّة موضع تقدير لجمالها و قوتها العاطفيّة والبعد الإنساني فيها ومدى تأثيرها على المتلقي.(15).
كاتب وباحث من سورية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (شكري الماضي (1993)، في نظريّة الأدب (الطبعة الأولى)، بيروت: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، صفحة 12.). بتصرف.
2- (موقع جامعة سعيدة – الدكتور مولاي الطاهر. مقياس نظريّة الأدب/ نظرية الانعكاس – المحاضرة الرابعة.). بتصرف. كذلك (يراجع موقع الحوار المتمدن – نظرية الانعكاس ….ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج.) بتصرف.
3- (شكري الماضي (2005)، في نظرية الأدب (الطبعة الأولى)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صفحة 73. بتصرّف.).
4- (الويكيبيديا . بتصرف.
5- (موقع سطور – شرح نظرية الانعكاس في الأدب – حنين معالي). بتصرف.
6- (موقع الحوار المتمدن – نظرية الانعكاس ….ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج).
7- ).( صالح زياد (2016)، آفاق النظرية الأدبية: من المحاكاة إلى التفكيكية (الطبعة الأولى)، تونس: دار التنوير للطبعة والنشر، صفحة 67. بتصرّف.).
8- (موقع الحوار المتمدن – نظرية الانعكاس ….ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج).
9- المرجع نفسه
10- المرجع نفسه.
11- (لاستزادة في معرفة أبرز سمات وخصائص ومبادئ نظرية الانعكاس يراجع – موقع جامعة سعيدة – الدكتور مولاي الطاهر. مقياس نظرية الأدب نظرية الانعكاس المحاضرة الرابعة).
12- (موقع قناة المعرفة والعلم -المنهج الاجتماعي (رواده – عناصره – ملامحه)-. بتصرف.
13- (لمعرفة المزيد عن النقد العربي ومدى ارتباطه بالمنهج الاجتماعي يراجع – https://www.alkhaleej.ae/– ملحق صحيفة الخليج – النقد الأدبي في الوطن العربي تحت المجهر – توقف عند مرحلة إبداعية سابقة).
14- (لمعرفة نظرية “الفن من أجل الفن” التي عبرت عن أفكار نقاد ما بعد الحداثة – راجع دراستنا في موقع – نشرة المحرر- “الفن من أجل الفن قراءة فكرية للمفهوم“( Art for Art’s Sake) *الكاتب – Christopher L. C. E Witcombe : ترجمة :د. عدنان عويّد).
15- للاستزادة في معرفة الدور الحقيقي للأدب والفن في المجتمع – راجع دراستنا – التحليل السوسيولوجي للفن والأدب / د. عدنان عويّد – موقع الأردن العربي -).