في زمن يضيق فيه صدر الفكر، ويُختزل فيه الاختلاف إلى خلاف شخصي، يصبح الحديث عن ثقافة الاختلاف ضرورة فكرية وأخلاقية. هذا النص رحلة في معنى الاختلاف وأخلاق المختلفين، من السياسة إلى الفكر، ومن الأدب إلى الدين، مرورًا بتجربة ابن رشد الذي دفع ثمن فكره، ومحمد عابد الجابري الذي صمد أمام التيار. هي محاولة لطرح سؤال بسيط… لكنه مصيري: هل نعرف حقًا كيف نختلف؟

ما هو الاختلاف؟ إنه ليس مجرد تضاد في الرأي، ولا صراع بين وجهتي نظر. الاختلاف هو شرط وجودي. هو القاعدة الأصلية في الكون، إذ لا شيء يشبه الآخر، ولا عقل يتطابق مع عقل، ولا تجربة تتكرر كما كانت. ومن هنا، يصبح الاختلاف ضرورة قبل أن يكون خيارًا. إنه علامة حياة، ودليل فكر، وأداة فهم. فالاختلاف في جوهره ليس أن نخالف لمجرد المخالفة، بل أن نرى الوجود من زاوية أخرى. أن نمتلك الشجاعة كي لا نتماهى مع المألوف، وأن نجرؤ على طرح سؤال لم يسأله أحد، أو إعادة مساءلة ما ظنه الناس يقينًا.

في السياسة، يكتسي الاختلاف بعدًا مصيريًا. حين تتحول الدولة إلى صوت واحد، والرأي العام إلى قطيع، يولد الاستبداد. وحين يُخنق صوت المعترض، تنهار المؤسسات من الداخل قبل أن تُهددها العوامل الخارجية. الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد المقاعد ولا بعدد الصناديق، بل بمقدار المساحة التي يُمنح فيها المختلف كي يعبر، دون أن يدفع حياته أو مستقبله ثمنًا. وفي الفكر، كان الاختلاف هو ما منح الإنسانية حيويتها. لو لم يختلف الحكماء والفلاسفة والمفكرون، لبقينا أسرى فكر واحد، لا يتبدل ولا يتطور. الأفكار تنضج بالجدل. والعقل يتقوى حين يُسائل ما حوله. والمجتمعات التي تجرّم الاختلاف، تحكم على نفسها بالعقم الفكري والتأخر الحضاري.

ولا نحتاج أن نذهب بعيدًا… ففي تاريخنا العربي الإسلامي، كان ابن رشد خير مثال للمثقف الذي دفع ثمن اختياره أن يفكر خارج القطيع. اختلف مع فقهاء عصره، ومع السلطة السياسية، حين قرر أن يصالح بين الفلسفة والشريعة. ولأن فكره كان أكبر من ضيق عقولهم، نُفي، وأُحرقت كتبه في ساحات قرطبة. ودفع ثمن هذا الاختلاف نفيًا وعزلة… لكنه بقي اسمًا يتردد، فيما غرق جلادوه في النسيان. أما في حاضرنا، فكان محمد عابد الجابري من القلائل الذين سعوا إلى إعادة مساءلة التراث العربي بعقلانية وهدوء. تحمل الكثير من النقد، واتُّهِم بمحاربة المقدس، لكنه لم يتراجع، ولم يهاجم خصومه. أدار اختلافه بفكر لا بغضب، فبقي كتابه “نقد العقل العربي” علامة فارقة في فكرنا الحديث.

وفي الأدب، لا قيمة لكاتب يكرر ما قيل، بل لمن يكسر السائد، ويبتكر زاوية جديدة للرؤية. الكاتب الحقيقي لا يكتب لينافق المزاج العام، بل ليطرح فكرة، أو يشكك في مسلّمة، أو يعيد تشكيل السؤال. وفي الدين كذلك، كان الاختلاف أرقى ما عرفه الفكر الإنساني. ففي الفكر الديني، وعلى امتداد الأديان، اختلف العلماء والحكماء والفقهاء، وكانوا يرون أن الاختلاف في الرأي رحمة للناس واتساعًا للفهم، لأن الحقيقة المطلقة لله وحده، والعقل البشري محدود مهما أوتي من ذكاء. ولهذا قيل قديمًا: “الاختلاف رحمة.” لا لأنه ضعف، بل لأنه دليل قوة، وتعدد في طرق الوصول إلى المقصد.

لكن الإشكال الأكبر ليس في وجود الاختلاف، بل في كيف يُدار هذا الاختلاف. في المجتمعات المتخلفة يتحول الاختلاف إلى خصومة وعداء. وفي الحقول الفكرية الضعيفة يصبح المختلف خصمًا شخصيًا. أما في فضاءات العقل الناضج، فالمختلف فرصة لفهمٍ أعمق. أخلاق الكاتب أن يكتب ليحاور لا ليحاكم. وأخلاق السياسي أن يستمع قبل أن يحكم. وأخلاق المثقف أن يقبل النقد كما يقبل المدح. والناقد الحقيقي لا يكتفي بأن يقول: “أخطأت”، بل يوضح: أين؟ ولماذا؟ وكيف؟

قال جان بول سارتر: “الاختلاف هو ما يجعلنا بشرًا. حين نتفق على كل شيء، نتحول إلى آلات.” لذلك، الديمقراطية الحقيقية تبدأ حين نمارس حق السؤال، وواجب الجواب. حين نقول لمن يكتب: لماذا قلت هذا؟ ويقول الكاتب: قلت كذا لأنني رأيت كذا. وحين يسأل السياسي: ماذا تقصد؟ فيجيب الناقد: أقصد هذا وأرفض ذاك. وحين يسأل القارئ الكاتب: أين نختلف؟ يملك الكاتب حينها شجاعة أن يقول: لنبحث معًا. هذه معركة مؤجلة في مجتمعاتنا، لكنها معركة تستحق أن نخوضها.

من يومياتي التأملية

محمد اللحاف

‫شاهد أيضًا‬

دور الكيان في المنطقة العربية وتأثيراته على الفوضى الخلاقة والحرب على إيران …* الكاتب : محمد اللحاف

يعد من المواضيع الحيوية في فهم الديناميكيات السياسية في العالم العربي. حيث أن إسرائيل ، من…