ثانياً: المدرسة الكلاميّة:

المدرسة الكلاميّة من حيث الجوهر, هي مدرسة تميل إلى الفلسفة, وترى التمسك بظواهر النصوص الدينيّة المقدسة أمراً صحيحاً في نفسه. ومع ذلك لا بد من استخدام العلوم الأخرى للوصول إلى الحقيقة, وخاصة المنطق الأرسطيّ, لإثبات العقائد والدفاع عنها تجاه الآخرين, مثلها الأشاعرة والمعتزلة. (1).

     بتعبير آخر: هي مدرسة تستخدم مناهج عدة في عمليّة التشريع ومنها منهج أهل الحديث, والمنهج العرفانيّ والوجدانيّ والتكامليّ والعقلانيّ. بيد أن العقل والأدلة العقليّة تظل هي المنطلق الأساس  للوصول إلى الحقيقة عند أهل الكلام. ففي الوقت الذي نرى فيه المدرسة الأشعريّة في علم الكلام على سبيل المثال حتى هذا التاريخ تستخدم العقل, واستخدامها للعقل هنا لا يأتي للحكم على النص وإدخال العقل في (تفكيكه وتحليله ومدى قدرته على تحقيق مقاصده في الواقع المعيوش), وإنما يأتي استخدامه لتثبيت النص وفق ما أقره تفسيراً وتأويلاً وفقهاً السلف الصالح. أي الأخذ بما قاله فقهاء العصور الوسطى تفسيراً وتأويلاً, وبالتالي فالأشاعرة منهجياً هم أقرب إلى النقل منه إلى العقل سابقاً ولاحقاً, هذا مع تبنيهم المنهج الصوفيّ العرفانيّ أيضاً, كونهم اعتنقوا أو تبنوا الصوفية منذ أن أصلها أبو حامد الغزالي في الفكر الشعري. أي هو ذاته من ربط الفكر الأشعري بالفكر الصوفي وحارب العقل النقدي في كتابه “التهافت” كما هو معروف.

     أما عند المعتزلة: فيأتي استخدام العقل لتفسير وتأويل دلالات النص انطلاقاً من اشتغال العقل على مجاز اللغة بشكل خاص, كما فعل رجال المعتزلة كـ (واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وإبراهيم النظام، وهشام بن عمرو الفوطي، والزمخشري صاحب تفسير الكشاف، والجاحظ، والخليفة المأمون، والقاضي عبد الجبار.) وكذلك بعض الفلاسفة كـ (ابن حيان التوحيدي والكندي والفارابي…), وابن رشد الذي ربط بين الشريعة والحكمة, أي بين الدين والفلسفة.

تعريف علم الكلام:

      هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبه عنها وإلزام الخصم بها. وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به ، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وكذلك معرفة الرسول, وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر أوله وآخره.)، بشرط أن لا يخرج كل ذلك عن مدلولات الكتاب، والسنة الصحيحة، وإجماع العدول، وفهم العقول السليمة في حدود القواعد الشرعيّة، وقواعد اللغة العربيّة الأصيلة. وهناك عدة تعريفات لعلم الكلام، جاء بها العديد من الفقهاء وعلماء الدين القدماء, مثل علم التوحيد, وعلم أصول الدين، وعلم الإيمان، وعلم الأسماء والصفات، وعلم أصول السنة، وتختلف هذه التعريفات أو المفاهيم في ظاهرها، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى حقيقة واحدة، تتجسد في تعريف “الفارابي: ” بأنه «ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل». أو أو في تعريف “عضد الدين الإيجي” في المواقف بقوله: “علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به الاعتقاد نفسه دون العمل، وبالدينيّة المنسوبة إلى دين الإسلام، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام”. وإذا كان كل من “الفارابي” و”الإيجي” قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلاميّة دون تمييز بين الفرق الإسلاميّة، فإننا نجد “ابن خلدون” في مقدّمته يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق فيقول في تعريفه لعلم الكلام: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد». وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه “الغزالي” في المنقذ من الضلال. كما عرفه “الجرجاني” بقوله: «علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام». (2).  وسماه “أبو حنيفة” بـ”الفقه الأكبر” من حيث إنه يتعلق بالأحكام الاعتقاديّة الأصليّة في مقابل علم الفقه الذي يتعلق بالأحكام الفرعيّة العمليّة. وفي شرح العقائد النسفيّة يسميه “التفتازاني” علم التوحيد والصفات, فيذكر أن العلم المتعلق بالأحكام الفرعيّة, أي العمليّة, يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصليّة, أي الاعتقاديّة يسمى علم التوحيد والصفات. وقال “سعد الدين التفتازاني”: «الكلام هو العلم بالعقائد الدينيّة عن الأدلة اليقينيّة».(3).

أهداف علم الكلام وأهميته:

     إذاً وفق التعاريف الواردة عن علم الكلام التي جئنا عليها أعلاه, يقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلاميّة بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلًا إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نتعرف على الأدلة التي يوردها العلماءفي هذا المجال. وعلى ذلك فأن هذا العلم هو الذي يعرفنا بالأدلة والبراهين والحجج العقليّة التي باستخدامها نستطيع أن نثبت أصول الدين الإسلاميّ، ونؤمن بها عن يقين. كما أنه هو الذي يعرفنا كيفيّة الاستدلال بها وكيفيّة إقامة البراهين الموصلة إلى نتائج يقينيّة تتعلق بها. فإذا أردنا أن ننفي شبهة التجسيم عن الذات الإلهيّة مثلاً، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نستطيع معرفة ما يقال من نقد لإبطالها أو لإثباتها. ومن جهة أخرى لابد للأدلة التي يستدل بها على إثبات أي أصل من أصول الدين، أو أي مسألة من مسائل هذا العلم وقضاياه, يجب أن تكون مفيدة لليقين, أي لا يدخله الشك.

مناهج البحث في علم الكلام:

 هي الطرق التي يعتمدها المشتغلون بعلم الكلام عند  دراستهم مسائله وقضاياه، وأفكاره ونظرياته المتعلقة ببحث الفكر الدينيّ وتشريعاته، وهي تختلف باختلاف وجهات نظر علمائه ومدارسه التي تعرف بالفرق الكلاميّة.

     ويتلخص هذا, في أن للمذاهب الاسلاميّة الكلاميّة خمسة مناهج معتمدة في البحث والدراسة، وهي:

1 – المنهج النقليّ. 2 – المنهج العقليّ. 3 – المنهج التكامليّ.

4 – المنهج الوجدانيّ. 5 – المنهج العرفانيّ.

أولاً: المنهج النقليّ أو الإخباري أو أهل السلف, وقد جئنا عليه في الحلقة الأولى:

المنهج العقلي:

ويتمثل في الاعتماد على:

     1- الضرورة العقليّة (بداهة العقول).

     2- سيرة العقلاء.

     3- البديهيات العقلية (المنطقيّة) وهي: استحالة الدور, و(الدور هو أن يحتاج الأول إلى الثاني والثاني إلى الأول، إما بواسطة أو بغير واسطة، كما ذكر الفخر الرازي في المباحث المشرقية. أو قالوا: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه بمرتبة أو أكثر، كما جاء في مطالع الأنظار. أو قالوا: هو أن يكون شيئان كان منهما علة للآخر بواسطة أو بدونها، كما جاء في شرح المواقف. وهذا البرهان ينتهي إلى استحالة اجتماع النقيضين.). واستحالة التسلسل، أي (توقف التسلسل الحدثي للعلة والمعلول عند حد لا يمكن تجاوزه, كأن نقول عند الله يتوقف تسلل العلل, فهو علة الخلق ولا يوجد ما قبله علة).(4).

     4- المبادئ الفلسفية المسلم بها، مثل: مبدأ العليّة: أي (السببية، والتسبيب هو موضوع فلسفي وبشكل أخص يتعلق في فرع فلسفة العلوم, وتعني بالعلاقة بين حدث يسمى السبب, وحدث آخر يسمى الأثر، بحيث يكون الحدث الثاني (الأثر) نتيجة.). وهناك مبدأ القسمة الى الواجب والممكن والممتنع, (فالأول “الواجب” (وهو الذي قد وجب وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما أشبه ذلك). والثاني “الممكن” وهو: (الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر غدًا، وما أشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرع: “الحلال والمباح”). والثالث هو الممتنع: (الذي لا سبيل إليه، كبقاء الإنسان تحت الماء يومًا كاملًا ..).(5).

5 – اعتبار النصوص الشرعيّة مؤيدة ومؤكدة لمدركات العقل واأحكامه.

6 – تأويل النصوص الشرعيّة التي تخالف بظاهرها مرئيات العقول وفق مقتضيات القرينة العقلية. و(القرينة تتعلق بالمعنى والمبنى في اللفظ. منها ما هو لفظي ومنها ما هو معنوي.).

7 – الأخذ بالمتشابه, أي بتأويله في ضوء ما ينهي اليه النظر العقلانيّ. وهذا هو منهج المعتزلة ومن تأثر بهم. (6).

ملاك القول:

     يقوم منهج المتكلمين على دعامتين أساسيتين هما: العقل والنقل، وقد ذهبوا إلى عدم تعارضهما،  وقالوا: (لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح النقل الصحيح بحال),وأدخلوا عنصر العقل في المعرفة الدينيّة, وبذلك لا تقتصر على النقل وحده، ودافعوا عن النظر كأحد مصادر المعرفة وأهمها، ضد المنكرين له ومنهم  السمنية المقتصرين على الحس. (7)، والسوفسطائية المشككين في المعرفة العقلية. (8)، والحشويّة المنكرين لاستخدام العقل في الدين والواقفين عن ظواهر النصوص. ولم يكتف المتكلمون بذلك بل قرروا وجوب النظر، وإن اختلفوا في مصدر وجوبه إن كان الشرع أم العقل، يقول الجويني: «النظر الموصل إلى المعارف واجب ومدرك وجوبه بالشرع، وجملة أحكام التكليف متلقاة من الأدلة السمعية والقضايا الشرعية»، والمعتزلة تقول: «إن العقل يتوصل إلى درك الواجبات ومن جملتها النظر, فيعلم وجوبه عندهم عقلاً». ويستدل الجويني على وجوب النظر من جهة الشرع بإجماع الأمة على وجوب معرفة الله تعالى, واستبان بالعقل أنه لا يتأتى الوصول إلى اكتساب المعارف إلا بالنظر.

كاتب وباحث من سوريّة

الهوامش:

1- (1) علم الكلام من ويكيبيديا، لموسوعة الحرة.

2- (مخطوطة – مخطوطات الامام سيف الدين الامدي- رقم 27 الإحكام في أصول الأحكام أصول الفقه) . موقع كتاب بيديا – أكبر مكتبة عربية حرة.).

3-  (مخطوطة – مخطوطات الامام سيف الدين الامدي- رقم 27 الإحكام في أصول الأحكام أصول الفقه). المرجع نفسه.

4- (شبكة الأمامين الحسنين, للتراث والفكر الإسلامي. عبدالجبار الرفاعي.). استحالة الدور والتسلسل في العلل.  واستحالة اجتماع وارتفاع النقيضين.).

5- مركز إسلام ويب – تعريف الممتنع والواجب والممكن.

6- يراجع ايضاً في هذا الاتجاه ايضاً: (شبكة فجر الثقافة – الشيخ عبد الهادي الفضلي – منهج علم الكلام.).

7- السمنية فرقتان: فرقة تزعم أن البُدَّ كان نبياً مرسلاً، وفرقة تزعم أن البُدّ هو البارئ. الوكيبيديا.

8- السفسطائيين صفة نبعت من مصطلح كلمة سفسطة، وهم كانوا نوعًا محددًا من المعلمين في اليونان القديمة، في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. تخصص العديد من السفسطائيين باستخدام أدوات الفلسفة والبلاغة، لكن أيضًا في المقابل سفسطائيون آخرون علّموا مواضيع كالموسيقى والرياضة البدنية والرياضيات.). الوكيبيديا.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …