انشغل المثقف العربي المسلم ـ خلال القرنين الأخيرين ـ بالإجابة على عديد من الأسئلة التي لم يثرها واقعه ولم تنبثق من إطاره الفكري ونسقه المعرفي، ولم تكن نتاج ظواهر شهدها تاريخه نتج من خلالها السؤال كإشكالية تحتاج إلى حل، فقد شغل العقل المسلم خصوصاً في العالم العربي بتقديم إجابات اسلامية على أسئلة غير اسلامية واستهلك من الفكر والطاقة والزمن ما كان كافياً للدفع نحو الأمام قدماً في سبيل الاجابة على إشكالاته الحقيقية ومواجهة مشكلاته الواقعية.

ومن تلك الأسئلة سؤال التعددية أو سؤال التناقض بين الأصالة والمعاصرة «سؤال الفصام بين الدين والدولة أو الدين والسياسية… الخ» من أسئلة شغلت العقل المسلم ولم تزل تشغله دون أن يبذل جهداً للتساؤل حول السؤال ذاته. فما قد تحتاجه تلك الإشكاليات ليس أكثر من إثارة السؤال حول السؤال، قبل التطوع بتقديم الاجابة، إذ أن السؤال ذاته قد لا يكون جوهرياً أو ذات علاقة بواقعنا وتاريخنا وثقافتنا، وقد تكون هناك أسئلة أخرى أجدر بالإشارة وأدعى للاجابة.

 فإشكالية العلاقة بين الدين والدولة أو ثنائية الدين والدولة ناشئة أصلاً من ثنائية عقائدية هي ثنائية اللاهوت والناسوت في العقيدة المسيحية أو الطبيعة المزدوجة للإله في العقل الأوروبي القائمة على أن هناك تركيب بين طبيعتين مختلفتين وليس توحيد بين صفات متعددة قد يكون ظاهرها متناقض. ومن ثم يمكن القول أن التوحيد المسيحي توحيد تركيبي وليس توحيد مزجي ولذلك كانت دعوة الفصل بين الدين والحياة العامة أو الدين أو الدولة لها ما يبررها في اللاوعي الأوروبي. وهو ما ليس كذلك في الوعي الاسلامي. حيث الدين هو ـ في الدلالة اللغوية ـ كل جوانب ومناحي الحياة فهو سياسة واقتصاد وتربية وأخلاق واستقرار وعقاب وقانون… الخ، فاللغة ذاتها تقوم على الشمول والتوحيد من خلال الدمج وليس على التركيب غير المتجانس (1) .

كذلك سؤال التعديدة الذي انشغل به العقل المسلم خصوصاً مع بزوغ النظام العالمي الجديد وتحول تلك المفاهيم مثل التعددية والمجتمع المدني وحقوق الانسان.. إلخ من الإطار الأكاديمي المنحصر بين دفات الكتب وقاعات الدرس إلى دوائر صنع القرار وأدوات السياسة الخارجية للدول الكبرى أو العظمى. حيث أصبح مفهوم التعددية مفهوماً إشكالياً ذا طابعاً دولي يتطلب إجابات من مختلف الثقافات عليه. ولم يثر التساؤل حول دلالة هذا المفهوم والمقصود به أو منه. وإن التعددية كإشكالية لم تعرفها مجتمعاتنا، فعندما نقصد بالتعددية التعدد العرقي والديني واللغوي والثقافي نجد أن جميع الأمم والشعوب لعبت دوراً محورياً في تاريخ الحضارة الاسلامية سواء سياسياً أو اجتماعياً وفكرياً. ومن ثم فالتعددية لدينا هي تعددية في الأعراق والأديان والثقافات، أما التعددية التي سارعنا للاجابة عليها والدفاع عن أنفسنا في مواجهة الاتهام بعدم وجودها فتعددية في الرأي داخل نفس العرق والدين والجنس واللون. ومثال البوسنة ليس بعيداً على الأذهان والأفارقة في المجتمع الأمريكي حتى اليوم شاهد على ذلك المعنى السياسي للتعددية وليس المعنى الحضاري الذي نعرفه في تاريخنا الاسلامي وفي مجتمعاتنا الاسلامية إلى اليوم. أما ما يطلق عليه إشكالية التعددية فهو لدينا إشكالية أخرى هي إشكالية تداول السلطة وإشكالية قبول الرأي الآخر، وبعبارة أشمل هي إشكالية الطغيان المستبد والانفراد بالسلطة وتحكم العصبية والقبلية في مجتمعات وشعوب تجاوزت تلك المراحل منذ زمن بعيد.

من أين جاءت إشكالية الأصالة والمعاصرة.

 وإشكالية الأصالة والمعاصرة ليست بعيدة عن ذلك، بل هي النموذج الأساس لهذا النوع من الإشكاليات. فلم يطرح في تاريخ المسلمين ثنائية بين الأصالة والمعاصرة وإن كانت هناك ثنائيات أخرى نبعت أيضاً بعد الاحتكاك مع الحضارات القديمة ذات الثقافات الوثنية مثل ثنائية العقل والنقل، والوحي والوجود، لكن لم تبرز ثنائية زمنية تقيم تناقضاً بين وحدات الزمن المتتابعة المتتالية التي لا يمكن الفصل بينها مطلقاً بصورة فعلية وإنما مجمل الفصل يتم بصورة ذهنية متخيلة حيث لا يمكن الحديث واقعياً عن ماض وحاضر ومستقبل فالكل نسيج ممتد وعملية متواصلة وكيان واحد، فالحاضر وجد في رحم الماضي والمستقبل قائم بيننا حاضراً، فالزمان كيان واحد متحرك متواصل، إذا نظرنا إليه من خارجه لا نكاد نميز بين الماضي والحاضر والمستقبل، إذ أن جميعهم صيرورة واحدة يتم تقسيمها ليس اعتماداً على تكونيها الداخلي، وإنما على موقفنا نحن ورؤيتنا لها.

وبالنسبة للمجتمعات البشرية لا يمكن تصور أنها توجد في لحظة واحدة من لحظات التاريخ، بل ان أحوال الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل تكون في حياتها كلاً لا يتجزأ، فالحاضر مفعم بالماضي، مثقل بالمستقبل، ونحن لا نستطيع أن نصف الحالة الآنية لأي مجتمع دون أن نأخذ تاريخه بعين الاعتبار، ودون أن نحولها إلى حالة من المستقبل، تكون اللحظة الحاضرة بمثابة نقطة العبور إليها.

وبناء على ذلك فلا يمكن الحديث عن انفصال بين ماضي أمة من الأمم وحاضرها، فماضي أية أمة أو أية ظاهرة مستبطن في تكوينها الداخلي لا يمكنها الفكاك منه، وإلا فقدت هويتها وذاتها ومن ثم فقضية الأصالة والمعاصرة مبنية على مسلمتين أساسيتين هما:

*أولاً: رؤية معيارية للزمن تقوم على أن الانتقال من نقطة زمانية إلى أخرى أكثر تقدماً منها يعني الانتقال من حال إلى أحسن منه وأن الزمن في حد ذاته يعتبر معياراً فالتقدم الزمني أو السير الزمني يعني تقدماً بشرياً وتحسناً في حياة الانسان. وهذه مسلمة فاسدة لا يمكن اثباتها عبر التاريخ الانساني، فالتقدم في الزمن قد يعني إنهيار في الحضارة وقد يعني تقدماً ومن ثم فهو فعل محايد لا يمكن أن يفسر شيئاً ولا يمكن أن يكون معياراً ومن ثم فالمقارنة بين القديم والجديد لا تعني شيئاً ذا قيمة ولا تقدم معياراً صحيحاً. إلا إذا أخذنا تجربة تاريخية لحضارة معينة واعتبرناها المعيار الذي عليه تقاس باقي الحضارات. مثلما فعلت الحضارة الأوروبية التي اعتبرت نفسها معياراً للبشرية، ومن ثم أصبح كل العالم يدور حولها أو كما يقول «أسوالد شبنجلر» في كتابه «تدهو الحضارة الغربية»: «ان تقسيم التاريخ إلى قديم ووسيط وحديث تقسيم تافه وسقيم، وغير ذي معنى إلى حد لا يصدقه عقل، فهو منهج لا يحدد فقط حالة التاريخ، بل ما هو أسوأ من هذا، إنه يعالج رقعة أوروبا بوصفها قطباً ثابتاً، وبقعة فريدة من نوعها اختيرت على سطح الأرض دونما سبب مفضل، بينما يجعل تواريخ عظمى وحضارات جبارة غارقة في القدم تدور حول هذا القطب بكل بساطة وتواضع» (2) . ويضيف «محمد أسد» في كتابه «الاسلام على مفترق الطرق» «كما لو كان العالم قد أوجد من أجل أوروبا، وكما لو أن سائر الشعوب والمدنيات قد خلقت لتكون حواشي» (3) .

أما الرؤية الاسلامية لمفهوم الزمن فتقوم على أن الزمن ليس إلا فعلاً محايداً، فالتاريخ ليس مقسماً إلى حقب وفق منظومة تطورية تجعل منه معياراً حتمياً للتصنيف والحكم، فقد أعطى الانسان عبر التاريخ شرعية كاملة، دون تمييز مسبق وفق التسلسل الزمني، واعتبرت مفاهيم العدل والتقوى والاستخلاف وعمارة الأرض، والإيمان بالآخرة والعبادة، مقاييس للتقدم والتخلف، فنقطة القياس تبقى دائماً في فعل الانسان والمجتمع بحيث يأخذ كل عصر من هذه القيم وفق طاقته واحتياجاته ويشكل بناء عليها حضارته ويبني مجتمعه دون وجود أي مبرر للقياس بينه وبين عصر آخر أو مجتمع آخر، فكل ينطلق من قيم معينة ويتوجه نحو مقاصد محددة، يدرك منها ما يستطيعه طبقاً لظروفه وقدراته بحيث يكون في النهاية منظومة مستقلة تتحول بعد ذلك إلى جزء تكويني من الوعي الجمعي للأمة السائرة على درب الزمن نحو الله سبحانه وتعالى سواء بالرجعى إليه في الدينا، أو إليه الرجعى في الآخرة.

وبذلك يفقد الزمن كونه معياراً أو وسيلة للتقويم، وإنما هو أداة أو وسيلة يستخدم أو تهمل ولكل نتائجه التي تترتب عليه بلا محالة.

وهذا الإدراك للزمن ينفي ثنائية الأصالة والمعاصرة إذ أن كل مجتمع يعيش عصره، ويتفاعل معه سواء بصورة فعالة ناجحة أو بصورة فاشلة وفي كل الأحوال فهو معاصر لذاته وزمانه والمجتمعات الأخرى المحيطة به وان خالفها في الاختيار أو في السلوك أو في النتائج وهو كذلك أصيل أو قديم بالنسبة لأي مجتمع قادم فالخلفاء الراشدين كانوا معاصرين لزمانهم وهم أصالة وماضي بالنسبة لنا، ومعاصرتهم لزمانهم لم تجبرهم على أن يكونا مثل الفرس أو الروم وأصالتهم وقدمهم بالنسبة لنا لا يعني أننا أفضل منهم أو أكثر انسانية من مجتمعاتهم. وهكذا…

*ثانياً: إن فكرة الأصالة والمعاصرة كثنائية متقابلة تقوم على التسليم بخطية وتطورية وتصاعدية الحركة التاريخية، تلك الأطروحة التي بنيت عليها علوم الأنثروبولوجيا والتنمية وتسربت في مختلف العلوم الاجتماعية المعاصرة حيث أن التاريخ يسير في تطور وحيد الخط متصاعد، فكل مرحلة هي أكثر تقدماً من سابقتها وهي الأفضل، وعلى كل المجتمعات أن تسلك نفس خط التطور الذي سارت فيه المجتمعات الأكثر تقدماً، ولا فكاك من ذلك، وفي هذا السياق ظهر مفهوم الأصيل ليعبر عن النسق التقليدي وظهر مفهوم العصرية أو الحداثة ليعبر عن النسق الذي وصلت إليه المجتمعات الأوروبية (4) .

طريق واحد أم طرق متعددة للمعاصرة

 في هذا السياق أيضاً ظهرت أفكار «تضييق الفجوة» «اللحاق بالركب الحضاري»… الخ لتعبر عن أن المجتمعات الأوروبية أو مجتمعات الحضارة الغربية في أوروبا وامتداداتها في الأمريكيتين واستراليا والبيض في جنوب افريقيا واسرائيل هي القاطرة التي سارت في خط التطور التاريخي خطوات ولم يعد أمام المجتمعات الأخرى إلا أن تسلك نفس الطريق وتحاول التعلق بالقاطرة وإلا فقد تفقد وجودها أو تتحجر في طورها الحضاري الذي وصلت إليه.

وقد أدت هذه الأطروحة إلى نفي وجود أي طريق آخر للتطور أو نفي إمكانية التفكير فيه، فقد تحولت قيم الحضارة الأوروبية ومعاييرها وأنماطها السلوكية إلى أن تصبح هي المرادف أو المحتوى لمفهوم المعاصرة، وهي المحدد لقيم العصر التي ينبغي السعي لاكتسابها. في حين أن التعريف الموضوعي لمفهوم المعاصرة يستلزم أن يكون هناك قيماً مشتركة تتفق جميع الشعوب والثقافات والحضارات على أنها هي قيم العصر أو هي المعاصرة ومن ثم تصبح المعاصرة إجماع انساني على معايير حضارية معينة. أما في حالتنا الآن فالمعاصرة احتكرت من قبل حضارة واحدة وتحولت إلى مفهوم ذرائعي يتمترس بها حاملو الثقافة «العصرية» لنزع الشرعية عن الثقافات والحضارات الأخرى أو نفيها من الوجود أصلاً.

وبالنظر إلى سياقنا الحضاري الاسلامي لا نجد من يرى بالخطية والتصاعدية في التطور التاريخي للمجتمعات بل على العكس نجد هناك الحلزونية أو الدائرية أو أية أشكال أخرى. «فابن خلدون» يركز على الدائرية المتصاعدة أي الحلزونية (5) . و«مالك بن نبي» جعلها مراحل ترتبط بقيم الروح ثم العقل ثم الشهوة (6) ، وسبقه «ابن أبي الضياف» فجعلها عملية مشروطة بالعدل حيث لا حتمية في أجيال ثلاث أو مراحل ثلاث وإنما يتوقف عمر الحضارة على العدل وانتشاره (7) ومن ثم فالزمن ليس معياراً وإنما القيم، والتطور التاريخي ليس محدداً أساسياً وإنما الفعالية التاريخية واتجاهها، بغض النظر عن سير الزمان وصيرورته.

ولعله من المشروع إثارة السؤال حول ظهور هذه الإشكالية خصوصاً في تلك الحقبة التاريخية التي نعايش امتداداتها أو نعيش واحدة من حلقاتها. ولماذا لم تثار من قبل على الرغم من اثارة إشكالات شبيهة بها.

والناظر في جوهر هذه الثنائية يجد أنها تخفي وراءها ثنائية أخرى هي «الذات» و«الآخر» أو بعبارة أدق ثنائية: التطور الذاتي المتمثل في حركة التاريخ التلقائية المتحركة بدوافع داخلية ذاتية بصورة أساسية ولمواجهة تحديات مجتمعية ولو من خلال الإستفادة من مدخلات خارجية بصورة ثانوية، والتطور والمدفوع بعوامل ومحددات خارجية والمرسوم بأهداف ومقاصد خارجية ايضاً بصورة أساسية ودوافع ومبررات داخلية بصورة ثانوية. أي تلك الثنائية ما بين أن تكون كما تريد أو أن تكون كما ينبغي أن تكون طبقاً لما يريد الآخرون.

هذه الثنائية الحادة بين «الذات» وما تحمله من قيم، وبين الذوبان في الآخر والانخلاع عن الذات وما يحمله من مخاطر. هي التي أصبح يطلق عليها الأصالة والمعاصرة دونما تساؤل حول ماهية المعاصرة؟ ومن يحددها؟ ومن يصوغ قيمها ومعاييرها؟ وكيف نستطيع التيقن أننا أصبحنا معاصرين؟ ومن هو الحكم وما هي المرجعية؟.

هذه الثنائية لم يشهدها التاريخ الاسلامي بهذه الصورة وإن كانت هناك لحظات تاريخية احتك فيها الاسلام مع الغرب من مواقع مختلفة تراوحت بين القوة والضعف. ويمكن رصد لحظات ثلاث أفرزت كل لحظة منها نتائج ومؤثرات متباينة.

*اللحظة الأولى في فترة الاحتكاك الأولى خصوصاً في أوائل الدولة العباسية وفي مرحلة الترجمة بالتحديد حيث تم التفاعل بين الغرب والاسلام وعلى الرغم من الانتصار السياسي للاسلام إلا أنه تأثر بالفكر الاغريقي وأثيرت العديد من الإشكاليات التي كادت تمزق الأمة. لكن حيوية العقل المسلم ونضج النسق المعرفي الاسلامي في ذلك الحين حالت دون التفجير وأمكن امتصاص الفكر الاغريقي وهضمه وتحوله إلى جزء من النسق المعرفي الاسلامي بمعناه الواسع.

*واللحظة الثانية في فترة الحروب الصليبية. ويلاحظ فيها أنه على الرغم من التفوق العسكري النسبي للغرب إلا أنه تأثر وبصورة قوية بالمعرفة الاسلامية وبدأ الانشغال الفكري في المجتمع الغربي يؤتي ثماره بعد ذلك. أما بالنسبة للعقل المسلم فلم يحدث له أي نوع من الانهزام الفكري نظراً لضعف المحتوى الفكري الأوروبي في ذلك الوقت.

*واللحظة الثالثة فيما بعد الحملة الفرنسية، ونظراً للضعف الحضاري العام والتدهور الفكري في العالم الاسلامي من ناحية، وقوة النسق الحضاري الأوروبي من ناحية أخرى فقد مثلت لحظة نموذجية لتفاعل الاستلاب كقوة نابعة من النسق الأوروبي والقابلية للاستلاب كحالة يعيشها العقل المسلم. ومن ثم كان الاهتزاز في تحديد ماهية الذات وكانت الدعوات المتباينة للتخلي عن الذات وتقميص الآخر وتطوير الذات طبقاً لمعايير الآخر. أو إيجاد صيغة توفيقية تشتمل على الذات والآخر معاً بحيث لا يكون لها معنى ولا ماهية وفي مقابل ذلك كانت ردود الأفعال النكوصية المرتدة إلى الوراء للتعلق بأهداب عصور زاهية في التاريخ. وهنا أثيرت وبشدة هذه الإشكالية، إشكالية الذات والآخر، أو إشكالية الأصالة والمعاصرة.

ولم تأت إثارة هذه الإشكالية أمراً مفتعلاً أو تآمرياً أو خطة مسبقة خطتها أيدي الاستعمار العالمي، وإنما جاءت بصورة تلقائية في ظل تطور اجتماعي ثقافي معين عايشته الأمة العربية الاسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد أدى الشعور بالهزيمة الحضارية إلى استلاب أمام الثقافة الأوروبية وقد ساعد على ذلك ودعمه كثقافة عامة انبهار النخبة المثقفة بنمط الحياة الأوروبي واعتبارهم إياه النسق الإنساني الأرقى ولعل تحليل مؤلفات «رفاعة الطهطاوي» و«خير الدين التونسي» وغيرهم ممن وصفوا الحياة الأوروبية وصفاً دقيقاً يدرك مدى الانبهار بمجمل الثقافة الأوروبية، مع سقوط فجائي لحاجز العداء أو للشعور بالتناقض والمخالفة أو الاعتزاز بالذات الحضارية، بل زوال الشعور بأن فرنسا دولة معتدية حاولت احتلال مصر والشام، وقد تداعى هذا الاعجاب وتعمق حتى تحول إلى تقليد بظهور طبقة اجتماعية تتبنى هذه الثقافة وتعيش بها خصوصاً مع محاولات «اسماعيل باشا» تحويل مصر إلى دولة أوروبية، ثم تزايد التقليد إلى أن انقلب إلى عداء للذات ورفض للهوية والتراث والتاريخ.

وفي مقابل ذلك كان هناك دائماً من يحاول التمسك بالماضي والاحتماء به هرباً من تخلف الواقع وانحطاطه ومن هجوم الآخر وتهديده، وفي سياق الذهاب إلى الماضي والتدثر فيه والهروب من الواقع تم رفض كل ما هو قادم من الغرب سواء كان خيراً أم شراً، لأنه في حالات افتقاد معيار التقويم لا يمكن الوزن والتقويم وتكون المحصلة رفض مطلق أو قبول تام. فقد رفضت المطابع في بداية ظهورها ودار نقاش حول شرعية طبع القرآن بالمطابع الحديثة ورفضت الإذاعة واثير جدل حول مشروعية إذاعة القرآن عبر الراديو. ورفض التعليم الحديث والمؤسسات الغربية وكل ما هو قادم من الآخر. وتم تجاوز مقولة الإمام «الشاطبي» في كتابه الأشباه والنظائر في فقه الشافعية «انه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد».

وفي سياق ذلك انشطر المجتمع إلى قطاعين بينهما أخدود عميق، قطاع تقليدي حافظ على التعليم التقليدي ونمط الحياة المتوارث وقطاع حديث تبنّى التعليم الحديث وكافة الثقافة الأوروبية وتحول القطاعان إلى عالمين مختلفين بينهما ما لا يقل عن خمسة قرون من الزمان.

 فأصبحت إشكالية الأصالة والمعاصرة إشكالية تبريرية تسويغية لكل من الفريقين أحدهما يدعي التمسك بالأصالة والآخر يدعي تمثيل المعاصرة والتحدث باسمها. وبينهما فريق ثالث يحاول التمسك «بالأصالة» والأخذ من «المعاصرة» بنصيب ومن ثم أصبح لدينا ثلاثة رؤى في التعامل مع هذه الإشكالية:

*أولاهما: رفض مطلق لما يسمى بالمعاصرة وتمسك حرفي بالموروث بحجة أنه الأصالة والذات والهوية.

*وثانيهما: قبول للمعاصرة ورفض للتراث بحجة أنه تخلف ورجعية.

*وثالثهما: محاولات التوفيق.

وفي كل من هذه الاتجاهات الثلاث تيارات مختلفة ومتباينة طبقاً‏لتحديد ما هي الأصالة وما هي المعاصرة وأي النماذج ننقل. وهذه الاتجاهات الثلاثة تيارات سلبية مستلبة من التاريخ أو من الحضارة الغازية لا يمكن القول انها تقدم حلاً أو حلولاً لهذه الاشكالية بقدر كونها تزيدها تعقيداً. وتجذرها في الواقع إذ أن كل هذه الأطروحات استقطابية أيديولوجية لا تثمر تطوراً أو تقدماً ولا تبني حضارة، لأن الحضارة هي الحضور في الزمان والمكان، الحضور الذي يقدم نموذجاً إنسانياً شاملاً ورؤية كاملة للانسان والكون والحياة والإله تكون معبرة عن ذات المجتمع ورواسخه الفكرية وعقيدته وثقافته.

وختاماً فإنه للخروج من هذه الإشكالية لابد من تجاوزها أولاً. ذلك التجاوز الذي لا يمكن أن يتم التوصل إليه إلا من خلال تفكيك جذورها ونقض مسلماتها. والتجاوز لا يكون فقط بمجرد إزالة التناقض بين المفهومين وجمعهما معاً في تكامل تركيبي مثل مقولة الأصالة الاسلامية المعاصرة أي سحب الاسلام للعصر وقيمه ومفاهيمه، لأن هذه الرؤية تؤدي إلى عكس مردودها إذ أنها تحكم العصر وقيمه في الاسلام وتجعل من العصر حكماً‏ومعياراً وأساساً للتقويم فيتم الاستدعاء من الاسلام طبقاً لحاجات العصر وهو منزلق خطير نبه إليه الإمام «الشاطبي» في «الموافقات» في نهيه عن الرجوع الاستظهاري للشريعة أي العودة إلى الشريعة لتبرير أفكار قائمة أو لتسويغ نظماً ومؤسسات وأفكار.

وإنما ينبغي التعامل مع الأصالة والمعاصرة على أنهما دائرة ومركزها فتاريخ الأمة وتراثها وقيمها ونمط حياتها يمثل دائرة مركزها الهوية والذات ومحيطها معطيات الواقع ونمط حياة المجتمع ومتطلبات الزمان، ومركز الدائرة لا يمكن إلغاؤه أو استبداله لأن ذلك يعني إلغاء هوية الأمة ونفي وجودها، وإنما ينبغي دائماً توسيع محيط الدائرة من خلال التلاقح والتفاعل مع الآخر ومع الذات ومع الاشكالات الواقعية المتسجدة. وبتطور الزمان تتوسع الدائرة من خلال تمدد محيطها مع ثبات مركزها (8) ، وبذلك تنتفي العلاقة الثنائية بين الأصالة والمعاصرة ويصبحان وجهان لحقيقة واحدة لكل أمة تاريخ وماض وأصول ولها في ذات الوقت متطلبات اجتماعية وتاريخية ينبغي أن تتفاعل معها والتقصير في الاستجابة لمتطلبات الواقع والتفاعل معها على قدر من المسؤولية والكفاءة لا يعني عجز الأصالة والتاريخ والتراث أو أن السبب كامن فيهما وإنما يعني عجز إنسان العصر ومجتمعه على فهم واقعه والتجاوب معه والسيطرة على اشكالاته. وتحقيق المقاصد الانسانية التي ينبغي أن يحمل عبئها كل جيل في زمانه ومكانه.

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(1) الدكتور محمد بدر، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، القاهرة، بدون ناشر، ص 484-515.

(2) إسوالد شبنجلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة: أحمد الشيباتي، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1964، الجزء الأول، ص60-61.

(3) محمد أسد، الاسلام على مفترق الطرق، ترجمة: د. عمر فروخ، القاهرة، دار الاعتصام، بدون تاريخ، ص76.

(4) نصر محمد عارف، نظريات التنمية السياسية المعاصرة: دراسة نقدية مقارنة في ضوء المنظور الحضاري الاسلامي، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 1992.

(5) عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة. تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1981، ص888.

(6) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، 1985، ص102-104.

(7) أحمد بن أبي الضياف، اتجاهات أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق: أحمد عبد السلام، تونس، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، 1969، الجزء الأول.

(8) خالد الحسن، لكي لا تكون القيادة استبداداً: من حصاد تجربتي، عمان، بدون دار نشر، 1995، ص39-40.

(*) استاذ مساعد العلوم السياسية بجامعة القاهرة وأستاذ زائر بجامعة العلوم الاسلامية والاجتماعية ـ بفرجينيا ومركز التفاهم الاسلامي ـ المسيحي بجامعة جورج تاون بواشنطن.

*****

*عن موقع ” افاق “مركز افاق للدراسات والبحوث

نشر بها 11 اكتوبر 2015



‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …