يضع قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بـ «الاعتراف» بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها – يضع هذا القرار الأقطار العربية عموماً، والفلسطينيين بالضفة والقطاع خصوصاً، أمام مساءلات مصيرية حادة حول طبيعة ومستلزمات الموقف العربي-الفلسطيني، السياسي، والكفاحي، الذي يتناسب مع خطورة وتداعيات هذا القرار الأمريكي المشئوم.
ولئن أجمعت ردود الفعل الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية على إدانة القرار الذي يُلغم خيار «التسوية السلمية» للنزاع العربي-الإسرائيلي، ويقوض آفاق السلام في منطقة الشرق الأوسط – فإن الحمولة السياسية، والخلفية الإيديولوجية للقرار، وكذا أبعاده الجيوسياسية، وتداعياته المدمرة على صيغة «حل الدولتين»، كما أقرتها الشرعية الدولية، لتضع العرب والفلسطينيين أمام متغير خطير في مسار «التسوية السلمية» للنزاع العربي-الإسرائيلي، وهو المسار الذي اختطف من عمر النضال الفلسطيني، والمؤازرة العربية لقضيته، أزيد من عقدين من الزمن (1993-2017).
وإذا كان التنديد العربي الرسمي، والاحتجاج الشعبي، اللذين أعقبا إعلان القرار الأمريكي، ضروريين، وهامين للتعبير عن قوة الصدمة التي أحدثها القرار، فإنهما غير كافيين، ولا يرتقيان إلى مستوى التحدي الأمريكي-الإسرائيلي الذي يروم إجهاض عملية تحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، واستبدالها بعملية «سلام» زائف لا يفي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشرقية.
وغني عن الإشارة أن هذه المدينة العربية، الفلسطينية التي تضم الأماكن المقدسة للأديان التوحيدية الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية، قد ظلت في قلب الأطماع التوسعية، الاحتلالية لإسرائيل منذ «نكبة» 1948.
(1) ويبدو أن القرار الأمريكي الرامي إلى «شرعنة» الأجندة الإسرائيلية باحتلال القدس الشرقية في يونيو 1967، ثم بإعلان «ضمها» سنة 1980، إنما يمثل بنداً في خطة أمريكية، قيد الإعداد، أطلق عليها «صفقة القرن»، ولا يعرف الرأي العام، لحد الآن، شيئاً عن تفاصيلها.
بيد أن تصرفات وأقوال الرئيس الأمريكي، منذ اعتلائه سدة الحكم على الخصوص، تشير إلى تبنيه بالكامل الأجندة الإستراتيجية فيما يتعلق بعدة قضايا دولية وإقليمية، وفي صدارتها قضية النزاع العربي-الإسرائيلي.
وإذا كان قرار الرئيس ترامب، فيما يخص تغيير الوضع القانوني للقدس الشرقية، يمثل منعطفاً خطيراً في سياسة الولايات المتحدة إزاء العرب والفلسطينيين، فإن هذا التحول لا يشكل سوى فصل واحد في نسق الإستراتيجية الأمريكية، الشرق الأوسطية، كما تشير إلى ذلك جملة من المعطيات والمؤشرات…
وترمي هذه الإستراتيجية الأمريكية التي بدأت معالمها تتوضح إلى إرساء واقع جيو-سياسي في منطقة الشرق الأوسط، يقوم على مرتكزات أربع:
أولها: مركزة الكيان الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، كقوة إقليمية عظمى، تمارس نفوذاً جيو-سياسياً، وهيمنة عسكرية على دول العالم العربي-الإسلامي؛
ثانيها: ترسيخ مؤازرة الولايات المتحدة الأمريكية لكل الأجندات الإسرائيلية، السياسية، والجيوسياسية والترابية، دون أي اعتبار لمقتضيات القانون الدولي، ولا مراعاة لقرارات الشرعية الأممية؛
ثالثها: العمل على استتباع دول عربية، وتطويع إرادتها للانخراط في هذه الإستراتيجية الإقليمية، مستغلة في ذلك هشاشة الأمن الإقليمي التي تطبع منطقة الشرق الأوسط، في ظل الصراعات الجيو-سياسية الناشبة بين دولها الوازنة؛
رابعها: تشجيع وتعزيز سياسة «التطبيع» مع إسرائيل، باعتبار هذه السياسة رافعة معنوية قوية وآلية عملية حاسمة، على طريق تحقيق أهداف ومرامي هذه الإستراتيجية.
إن هذا التطور المشئوم في الموقف الأمريكي، يزج بالنزاع العربي-الإسرائيلي في مرحلة جديدة، بالغة الدقة، في ظل متغيرين طارئين:
أولهما: أن دور «الوساطة» الذي تمارسه الولايات المتحدة منذ سنة 1993، في مسلسل «التسوية السلمية» للنزاع، قد أمسى إشكالياً، سياسياً ومنطقياً، في ظل «اعترافها» بإسرائيلية القدس الشرقية، طالما أن هذا الدور قد فقد مرتكزاته السياسية والموضوعية، القائمة على موقف الحياد وعنصر النزاهة من جانب، كما فقد هذا الدور مشروعيته، لكون الموقف الأمريكي الجديد من مسألة القدس الشرقية، يشكل انتهاكاً سافراً، صارخاً للشرعية الدولية، كما عبرت عنها قرارات مجلس الأمن الدولي، وفي مقدمتها القراران رقم 476 و478، الصادرين سنة 1980، والقرار رقم 2334 الصادر في دجنبر من سنة 2016.
وفي هذا المضمار، يتعين التذكير بأن وضع القدس الشرقية قد ظل موضوع قرارات خاصة، ومتواترة لمجلس الأمن الدولي منذ عام 1980. فقد نص قرار هذا المجلس رقم 478/1980 على: «عدم الاعتراف بـ [القانون الأساسي] والأنشطة الأخرى الإسرائيلية التي ترمي بفعل هذا القانون إلى تغيير طابع ووضع القدس، ويطالب (المجلس):
كل الدول الأعضاء بقبول هذا القرار؛
الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس بسحب هذه البعثات من المدينة المقدسة».
كما أكد القرار رقم 2334 الصادر في 23 دجنبر 2016 على: «أن مجلس الأمن لا يعترف بأي تغيير في حدود 4 يونيو 1967، بما في ذلك القدس، ماعدا التعديلات المتفق عليها من قبل أطراف النزاع، عبر طريق المفاوضات» (الفقرة الثالثة من القرار).
ثانيهما: أن قرار الرئيس الأمريكي في شأن القدس الشرقية، فضلاً عن انتهاكه السافر للشرعية الدولية، يُصيب في مقتل «حل الدولتين» الذي أجمع عليه المجتمع الدولي، كإطار للحل السياسي للنزاع العربي-الإسرائيلي، ومن تم فإن القرار يُغلق أفق «التسوية السياسية» التي امتدت المفاوضات بشأنها زهاء عقدين من الزمن (1993-2014).
(2) وتستلزم مواجهة الظرف الجديد الذي أضحى يهدد مسار حركة التحرير الفلسطينية بأخطار محدقة، في طليعتها ضياع ما تبقى من أرض فلسطين (زهاء ربع مساحتها الجغرافية) منذ «النكبة» التاريخية لسنة 1948 – تستلزم مواجهة هذا الوضع ضرورة قيام العرب والفلسطينيين معاً، بتقييم شامل، ومراجعة موضوعية جريئة لتدبيرهم لـ «القضية الفلسطينية» منذ أزيد من سبعة عقود خلت (1948-2017) بصفة عامة، ومنذ عقدين ونصف (1993-2017) بصفة خاصة، في اتجاه استخلاص الدرس من تجارب الماضي القريب، واستحضار العبرة من التهافتات والأخطاء التي طبعتها…، وذلك من أجل إعادة رسم خارطة طريق رصينة، ملائمة وفعالة في مواجهة واحتواء مخاطر المرحلة الدقيقة الراهنة.
إن زخم الاحتجاجات الشعبية الفلسطينية ضد قرار ترامب ليخفي في الحقيقة مشاعر الإحباط والمرارة لدى الشباب الفلسطيني في ظل معطيين صادمين، ماثلين: لا التضحيات البشرية المتواصلة في الميدان، ولا دورات التفاوض السياسي في الملتقيات لم توقفا الاستيطان الإسرائيلي الذي يبتلع الأرض الفلسطينية كل يوم: إن الحقيقة الصادمة في الواقع الفلسطيني أن الاستيطان في أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة في إطار «حل الدولتين»، قد بلغ نحو ستمائة ألف مستوطن جديد في الضفة والقدس، ضمنهم 280 ألف مستوطن مسلح، وأن زهاء 400 قرية فلسطينية في الضفة قد تم تجريفها، وأن الآلاف من الوطنيين الفلسطينيين قد زج بهم في غياهب السجون…
أفلا يفرض هذا الوضع المأساوي إعادة تقييم شامل لإستراتيجية وخطة التحرير الفلسطيني؟
أفلا يوقظ روح التضامن في المستوى المطلوب لدى قيادات ونخب الأطراف العربية والإسلامية المعنية بحاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني؟
أفلا يستدعي طي صفحة الخلافات السياسية والجيوسياسية الظرفية التي تبدد وحدة الصف العربي-الإسلامي، وتغلق في وجهه الأفق الاستراتيجي للتعاون الإقليمي الذي وحده يوفر شروط الأمن الجماعي، ومقومات التنمية التضامنية، ويقوي اللحمة المجتمعية على الصعيد القطري والقومي والإسلامي؟
وتعود مسئولية هذه المقاربة الجادة، مقاربة التقييم والمراجعة النقدية لمناهج وآليات تدبير النزاع العربي-الإسرائيلي بالدرجة الأولى إلى «منظمة التحرير الفلسطينية»، بالنسبة للطرف الفلسطيني، بعد إعادة هيكلتها، وإعلاء شأن دورها في معركة التحرير، وإلى دور «جامعة الدول العربية»، بالنسبة للطرف العربي، بعد إعادة الروح إلى ميثاقها، والتقيد بالمعقولية في مواقفها، واستعادة المصداقية لقراراتها…
بيد أن الطابع الاستعجالي لمواجهة الظرف السياسي الجديد من أجل امتصاص صدمته، واحتواء تداعياته يستدعي – في نظرنا – الإقدام على اتخاذ تدابير وإجراءات جريئة من شأنها إعادة ميزان القوى بين الكيان الإسرائيلي والمجموعة العربية، إلى التوازن الضروري، في أبعاده السياسية، والعسكرية والجيوسياسية.
ومن باب تحصيل حاصل، فإن مناط هذا التحول الاستراتيجي في شروط النزاع العربي-الإسرائيلي يعود بكيفية متوازنة ومتزامنة إلى الأطراف الثلاث المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية، وهي الطرف الفلسطيني، والطرف العربي، والطرف الإقليمي، الشرق الأوسطي.
(أ)فيما يخص الطرف الفلسطيني، فإن إنهاء حالة الانقسام التي تبدد صفوفه، منذ مستهل التسعينات من القرن الماضي عموماً، ومنذ عام 2007 خصوصاً، واستعادة وحدة الرؤية و»الثورة» في مواجهة وحدة قوى الاحتلال، إسرائيل ومدعميها، قد أصبح – في ظل المتغير الجديد– شرطاً وجودياً لقضية التحرير الفلسطينية.
ولا مرية، فإن تجارب «الوحدة الفلسطينية» التي تواترت منذ سنة 2005، تحت عنوان «المصالحات»، وآلت في معظمها إلى الفشل، لم تعد اليوم تمثل مرجعية ذات مصداقية في مجال الوحدة الفلسطينية المنشودة. ذلك أنها «مصالحات» أنجبتها إكراهات ظرفية، وفرضتها اعتبارات تاكتيكية تتحكم فيها ازدواجية استراتيجية يجسدها التأرجح بين الهاجس التحريري والهاجس السلطوي..
إن ما هو مطلوب اليوم هو إعادة بناء الوحدة السياسية والرؤية الإستراتيجية والبرنامج الكفاحي في الإطار الجامع، الرائد: «منظمة التحرير الفلسطينية»، باعتبارها «الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني» في الضفة والقطاع والشتات، وذلك في سياق إعادة هيكلتها، وتفعيل مؤسساتها وإعلاء شأن دورها…
(ب) فيما يتعلق بالطرف العربي، فإن إعادة الاعتبار لقضية التضامن العربي، باعتبارها مسألة مفصلية بالنسبة لأمن واستقرار الأقطار العربية كافة، من الخليج إلى المحيط، وشرطاً حيوياً بالنسبة لتنمية ونهضة شعوبها هي اليوم أسبقية قصوى تفرض نفسها.
ولقد آن الأوان لاستخلاص العبرة مما ألم بأقطار عربية شتى، منذ عاصفة ما سُمي بـ «الربيع العربي» من فتن مجتمعية، وصراعات طائفية، ومشاحنات إقليمية، أدت – وما تزال – كلفتها الباهظة، البشرية والعمرانية والاقتصادية، الأقطار العربية الشقيقة في ليبيا وسوريا واليمن. بل إن انفراط عقد التضامن العربي كان إحدى العوامل الكامنة خلف الانتشار الجغرافي للظاهرة الإرهابية بمختلف مسمياتها «القاعدية» و»الداعشية» و»الإسلاموية». ومعلوم أن القرار الأرعن الذي وقعه الرئيس الأمريكي، ما كان ليصدر في هذا الظرف بالذات لولا وقوع الوضع العربي في حالة من التدهور والتشرذم لم يسبق لهما مثيل.
ولعل ما ينبغي أن يستحضره العرب اليوم أن محنة الوطن العربي – بغالبية كياناته القطرية – على مدى السنوات الست الماضية (2011-2017) ليست سوى محصلة دراماتيكية لسلسة من التهافتات السياسية، ليس أفلها التغافل عن العجوزات التنموية والديمقراطية التي زادت استشراءً وبالتالي نخراً للتماسك الاجتماعي، وتوظيف الدين في السياسة، مما نجم عنه انبعاث الصراع المذهبي، وانتعاش العصبية الطائفية، وتفاقم الظاهرة الإرهابية – وهي آفات مدمرة، لم تلبث أن أصابت في مقتل أنظمة الأمن الوطني، ومهدت السبيل إلى المراهنة على القوى الخارجية في حماية الأمن القطري والقومي.
وقد زجت هذه التهافتات بالعالم العربي في مسلسل من الارتكاسات والانقسامات والمشاحنات غير المسبوقة، وذلك في ظل «جامعة عربية» أمست منغاقلة عن التقيد التام بروح ونص «ميثاقها»، متجاهلة الالتزام بمقررات تفعيل التضامن بين دولها الأعضاء، وفي مقدمتها: «اتفاقية الدفاع العربي المشترك».
وفي ظل الحالة المزمنة للعالم العربي، سياسياً ومؤسساتياً وجيوسياسياً، تُطرح اليوم، بحدة متناهية، المسألة الجوهرية في إشكالية معالجة الأزمة الآخذة بخناق الوطن العربي، على امتداد مساحته، وعراقة حضارته، وثراء أقاليمه، وتطلعات شعوبه – إنها مسألة المشروع العربي الغائب.
ومما لا ريب فيه، فإن بناء مشروع عربي، يرسي أسساً للتضامن الفعلي بين أقطار العالم العربي، تتسم بالواقعية والجدية والمصداقية، وتفتح آفاقاً جديدة لتموقعه الجيو-سياسي في منطقة جغرافية بالغة الحساسية، شديدة التجاذب الاستقطابي – قد أضحى يشكل المفتاح والمنطلق في اتجاه وقف دينامية الأزمة المستشرية، وطي صفحة التشرذم، وذلك:
بإعادة الاعتبار لإطار ودور جامعة الدول العربية عبر العمل الحثيث على استعادتها لزمام الفعل والمبادرة في مجال تدبير وتعزيز قضايا التضامن العربي، في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والجيوسياسية…؛
بالتوافق العربي على منظور مشترك، وخطة واقعية، تحت مظلة «جامعة الدول العربية»، من أجل إرساء نظام أمني إقليمي، في إطار «ميثاق» شرق أوسطي، يقوم على التفاهم والتعاون وحسن الجوار بين دول الإقليم، وفق ما تطمح إليه شعوبه من أمن واستقرار وازدهار…
وفي هذا المضمار، فإن مقدمة ومفتاح هذا التحول المنشود لفائدة السلام والأمن والاستقرار في وطننا العربي، ليكمنان في دعم جهود السلام والأمن والاستقرار في سوريا الشقيقة، على قاعدة احترام سيادتها ووحدة ترابها وسلامة شعبها، وفق مقررات الشرعية الأممية، كما أقرها القرار الأممي رقم 2254 (18 دجنبر 2015)، ووضع حد لمآسي الحرب الناشبة في اليمن الجريح في أسرع وقت، وتعبئة جهود الإغاثة الأممية والدولية والعربية للملايين من أهلها، أطفالاً ورجالاً ونساءً، والانخراط الجامع، الشامل لدول الجامعة العربية في دعم جهود استعادة أمن وسلامة ليبيا المكلومة، ودعم جهود وتضحيات شعبها في محاربة الإرهاب المتربص بها، وإرساء سلطة الدولة ومؤسساتها على كافة أراضيها…
(ج) فيما يخص، أخيراً، الطرف الإقليمي، الشرق الأوسط، فإن نهوض مشاريع إقليمية واضحة المعالم، في مرحلة تاريخية تتسم بتحولات اجتماعية واقتصادية داخلية، عميقة، وبتطلعات جيوسياسية خارجية غير مسبوقة، كما هو الشأن بالنسبة لإيران وتركيا، وذلك في غياب تفاهمات جهوية، عربية-إسلامية – قد بات يُغذي صراعات إقليمية ذات طابع استراتيجي تروم «اقتسام» النفوذ الجيو-سياسي، وتشاطر الاستفادة من موفور المعابر البحرية الإقليمية، حيث تعبر نحو 40% من ناقلات النفط وسفن التجارة الدولية…
وفي غياب آلية سياسية، وإطار مؤسساتي جهويين/إقليميين لاحتواء هذه الصراعات التي تزداد حدة وعنفواناً كل يوم، فإن الطرفين العربي والإقليمي مدعوان إلى فتح حوار إقليمي مباشر حول الصراعات الإقليمية القائمة، السياسية والإيديولوجية والجيو-سياسية، بلوغاً إلى بلورة توافق إقليمي حول إطار مؤسساتي، من شأنه امتصاص تضارب المصالح ونزع فتيل الصراعات التي لا تستفيد منها سوى القوى الخارجية المتربصة،وفي مقدمتها وكيلتها في المنطقة: إسرائيل.
وغني عن البيان أن الأساس الموضوعي، بشقيه السياسي والمؤسساتي، للتعايش والتفاهم والتعاون بين الطرفين، قائم، متين بل يزداد أهمية وحيوية.
فيما يخص الشق السياسي للأساس الموضوعي للتفاهم والتعاون، العربي-الإسلامي، فإنه يتجلى في المشترك من التحديات القائمة في الإقليم: تحدي الإرهاب «الداعشي»، وإن أطيح بمشروعه الطاغوتي في العراق وسوريا، فإن فلوله الهائمة، وجيوبه المنثترة، وعقيدته المدمرة، ما تزال حية، نشيطة، متربصة؛ وتحدي العدوانية الإسرائيلية الإقليمية، المتفاحشة، على خلفية عقيدة وأجندة «التمدد الصهيوني»، الجغرافي من «النهر إلى البحر»؛ وتحدي التنمية الشاملة التضامنية التي تتطلب مناخاً من الأمن والاستقرار لدول الإقليم، داخلياً وخارجياً – إنها تحديات عظام تسائل، بنفس الحدة والدرجة، المنظومة الإقليمية، الإسلامية والعربية على السواء.
أما الشق المؤسساتي لذلك الأساس الموضوعي للتفاهم والتعاون الإقليمي، فإنه يتجسد فيما يمكن أن تلعبه منظمة «التعاون الإسلامي» التي تضم في حظيرتها دول الإقليم الإسلامية والعربية. ومن أجل إنعاش الذاكرة التاريخية المشتركة، فإن قضية القدس المحتلة، كانت السبب الحاسم، المباشرة لإنشاء هذا الائتلاف العربي-الإسلامي الذي يمثل اليوم زهاء مليار ونصف من ساكنة العالم: فقد انعقد المؤتمر الإسلامي الأول بمبادرة تاريخية: مغربية-سعودية، عقب إقدام عصابة من المتطرفين الإسرائيليين على إحراق المسجد الأقصى، في غشت 1969. حينها بادر المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، إلى دعوة قادة العالم العربي-الإسلامي إلى مؤتمر جامع بمدينة الرباط المغربية من أجل اتخاذ الإجراءات الضرورية المطلوبة للدفاع عن القدس المحتلة، وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية التي تحتضنها من حقد المتطرفين اليهود من جهة، وتعزيز التعاون والتآزر الإسلامي لدعم صمود المقدسيين في وجه مخططات الاستيطان والتهويد، من جهة أخرى.
ومن تم، فإن تكريس هذه الروح العربية-الإسلامية المقاومة في إطار منظمة «المؤتمر الإسلامي»، التي أصبحت فيما بعد منظمة «التعاون الإسلامي»، ليَضع دول العالم العربي-الإسلامي أمام مسئولية جسيمة، أمام الله والتاريخ والشعوب، في حماية القدس، ودعم صمود المقدسيين…
بيد أن الوفاء بمعطيات هذه المسئولية العربية-الإسلامية الجسيمة، تفرض اليوم تغليب التناقض الأساسي القائم بين منظومة الدول العربية-الإسلامية، ومعسكر الاحتلال والعنصرية: إسرائيل ومن يدعم عدوانها – تغليب هذا التناقض الأساس على التناقضات الثانوية التي باتت تنخر وحدة الصف، ووحدة الموقف إزاء التحديات المشتركة، القائمة.
(3) لقد مضى زمن كانت فيه لغة الشعار، ورَنين الخطاب يكفيان لإطفاء غضب الشعوب، واحتواء تطلعاتها المشروعة في إرساء تضامن وتكريس تآزر جمعي، حقيقي وفعال لمواجهة تهويد القدس والضفة، وتحرير الأراضي العربية المحتلة…
لكن الحصيلة الهزيلة لعقود من الوعود والترقبات، عمقت الوعي، وجذرت المواقف إزاء إشكالية التحرير ومستلزماته السياسية والتنظيمية والكفاحية. وفي هذا السياق أصبح المعيار والمناط هو الفعل النضالي، والدعم العملي، والمؤازرة الميدانية…
وفي ظل المأزق السياسي الراهن الذي تواجهه أطراف المعادلة السياسية والجيو-سياسية التي تحكم مستقبل المنطقة الشرق الأوسطية – الطرف العربي، والطرف الإسلامي-الإقليمي، والطرف الفلسطيني –، وذلك في شروط ظرفية إقليمية عصيبة – فإن الحد الأدنى المشترك لفعل نضالي، سياسي وميداني، ينبغي أن ينصب على أربع توجهات حيوية في مبناها، دالة في مغزاها:
أولها: تفعيل الالتزامات المقررة في أكثر من إطار تنظيمي، عربي وإقليمي، فيما يتعلق بدعم صمود المقدسيين مادياً ومعنوياً، على المستويات كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها…
وتمثل تجربة «لجنة القدس»، المنبثقة عن منظمة «المؤتمر الإسلامي»/»التعاون الإسلامي»، برئاسة جلالة ملك المغرب محمد السادس، نموذجاً يحتذى في فعل الدعم الشامل لفلسطيني القدس. وهو النموذج الذي أشاد به الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في خطابه أمام قمة منظمة «التعاون الإسلامي» المنعقدة مؤخراً باسطنبول.
كما تمثل هذه التجربة الجارية مثالاً ذا مغزى لتجاوز المفارقة التي المحنا إليها أعلاه بين لغة الشعار وواقع الفعل في مجال دعم ومؤازرة صمود المقدسيين.. فقد تحمل المغرب وحده – على مدى السنوات الماضية من عمر هذه المؤسسة الإسلامية العتيدة –، القسط الأعظم من ميزانية «بيت مال القدس» لتمويل المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المنجزة، الرافعة لصمود المقدسيين في وجه مشاريع الحصار والتهويد والتفقير والتهجير التي تواصل إسرائيل اقترافها..
ويشكل اليوم تكثيف الدعم لانتفاضة القدس التي فجرها إقدام الرئيس الأمريكي على توقيع قرار «الاعتراف» بإسرائيلية القدس، جزءاً لا يتجرأ من أولية القضية الفلسطينية في سلم الأولويات العربية والإسلامية.
ثانيهما: التعجيل بالعمل على استعادة «منطقة التحرير الفلسطينية» لدورها الطلائعي، النضالي، في قيادة الكفاح الفلسطيني من أجل التحرير سياسياً وميدانياً، وإنهاء مرحلة «الخصومات» الفلسطينية و»التموقعات» الفصائلية؛
ثالثها: العمل الحثيث من أجل عقد قمة عربية-إسلامية، استثنائية، في إطار «منظمة التعاون الإسلامي»، تتوج جهوداً حثيثة، صادقة لإرساء تفاهم وتوافق بين قادة الدول العربية والإسلامية حول متطلبات المرحلة الراهنة، وفي صدارتها أولوية قضية فلسطين والقدس الشريف لما يتهددهما من أخطار محدقة، وأسبقية استعادة الأمن والاستقرار الإقليمي، عبر نزع فتيل الصراعات الإقليمية، السياسية، والمذهبية، والجيوسياسية، المدمرة وإرساء علاقات تفاهم وتعاون إقليميين، جديرين بخلق مناخ جديد من الاستقرار والأمن في المنطقة.
خاتمة:
إن إقدام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نسف أسس «حل الدولتين»، عبر قراره اللامسئول بالاعتراف بـ «يهودية» القدس الشرقية، عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة، ما كان ليحصل لولا الوضع المزمن الذي يتخبط فيه العالم العربي: من تدمير للذات، وانقسام في الصف، بل واحتراب في الميدان…
وتقتضي مواجهة هذا التطور المؤسف في السياسة الأمريكية إزاء القضية المركزية للعالم العربي-الإسلامي، قضية فلسطين وعاصمتها القدس، استعادة روح التضامن الجمعي، واستثمار ما هو متاح من قواسم مشتركة للتصدي بحزم وشجاعة لما يتهدد الأراضي المحتلة من مخاطر التهويد والعنصرية في ظل الاحتلال الغاشم.
إن هذه المخاطر المحدقة ستظل قائمة، بل ستزداد تفاقماً، في ظل الإدارتين اليمينيتين، المتطرفتين الراهنتين، الإسرائيلية والأمريكية، طالما استمر وتكرس الاختلال الفادح، الراهن في موازين القوى السياسية، فضلاً عن العسكرية، بين إسرائيل المدعمة أمريكياً، والمجموعة العربية-الإسلامية السادرة في حالة الانقسام والتشرذم.
وإزاء هذا المعطى الموضوعي للصراع العربي-الإسرائيلي، فإن زعامات الأطراف الثلاثة في المعسكر الفلسطيني-العربي-الإسلامي لتوجد اليوم أمام مسئولية جسيمة أمام شعوبها وأمام التاريخ فيما يتعلق باستحضار وتفعيل التزام التضامن والتكافل إزاء التحديات والسياسات والأجندات التي تهدد القضايا المصيرية للأمة العربية-الإسلامية، وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس الشريف. إنه الالتزام الصريح الذي تم التوقيع عليه، باسم الشعوب العربية والإسلامية، في ميثاقي «جامعة الدول العربية» من طرف 22 دولة عربية، و»منظمة التعاون الإسلامي» من طرف 57 دولة عربية وإسلامية.
الخميس 21 دجنبر 2017./02 ربيع الثاني 1439 هج.