عن صفحة الاخ المبدع عزيز الساطوري نسخت تدوينته ورفقتها قراءة بقلم الزميلة والشاعرة حفيظة الفارسي في روايته ” حكايات الحي العتيق” والمنشورة بالصفحة الثقافية لجريدة ” الاتحاد الاشتراكي” يوم الاربعاء 1 ماي 2024. ..شكرا لكل من عزيز وحفيظ :

“حكايات الحي العتيق” للكاتب والصحفي عزيز الساطوري

حي ضاق حتى صار زقاقا، واتسع حتى أصبح بلادا

حفيظة الفارسي.

” أيها الطفل الذي كنتُ، تقدم

ما الذي يجمعنا، الآن وماذا سنقول؟”

أدونيس

هل يمكن لأي كتابة إبداعية أن تتحرر من صوت الطفل ونداءات الطفولة القابعة في الدواخل؟

قطعا، كل كتابة إبداعية لابد لها كيفما كان جنسها، روائية أو قصصية أو شعرية أو تشكيلية، لا بد أن تغرف من مخزون الذاكرة القصية، وتحديدا من مرحلة الطفولة . ذلك الخزان الهائل من ذكريات اللحظات الدافئة، الصادمة، القاسية.. التي تظل المنبع الأول لنهر الحياة القادمة – تطبعه، تلوّنه ، تسرقه من اللحظات الهاربة المضغوطة بثقل اليومي، محاولة استعادة ما ضاع من زمن جميل، الترنم بلحن النشيد الأول.

الحنين إلى الأمكنة

في عمل روائي جديد، يأخذنا الكاتب والصحفي والسيناريست عزيز الساطوري في آخر إصدار روائي له “حكايات الحي العتيق” الصادر عن مطبعة وراقة بلال، والذي أنجز غلافه الفنان التشكيلي شفيق الزكاري، يأخذنا إلى حيه العتيق “درب غلف”، حيث المكان منحفر في المسام مع الأماكن الأولى والألم البكر، مع الضحكات الصافية والإخفاقات العديدة، مع النجاح والفشل، الحب والموت، في تجربة كتابية تغوص في ثنايا الذاكرة، حيث لكل ذكرى هطل المطر الدافئ في القلوب والأرواح.

الرواية أو “الحي العتيق”، حيث تدور معظم الأحداث الروائية ، وحيث تنكتب مصائر الشخصيات وتتشابك العلائق وتتفرق السبل، تتعالى أصوات الحاضر لتغطي على أصوات الماضي في زمن موسوم بالتبدل، منذور للهشاشة وهدم كل أسباب الجمال.

“درب غلف” مسقط الرأس والهوى، يقودنا إليه عزيز الساطوري والقلب ممهور بنوستالجيا الحنين: ” درب غلف ” منارة الجذب والحنين. في أزقته نقشت الذكريات حيث بدأت الحكايات وتأبى أن تنتهي …. يشدني الحنين إلى حياة انقضت.. أراني طفلا.” (ص 7).

هذا الحي جامع شتات البلد، يأتيه السكان من كل مغرب عميق، حج إليه قاطنوه من مختلف قرى ومدن المغرب (وجدة – مزاب، دكالة ، الرحامنة .. ) “كانت حكايات وأسراره ملكا لسكانه لا يشاركهم فيها سكان باقي الأزقة قبل أن تداهمهم صدمة الحضارات، وأطماع الفرنسيين ممن كان يحلمون بمدينتين في قلب مدينة واحدة” (ص 9)، وبناء مدينة وأحياء خاصة.. هذا “الحي العتيق” “كان” استثناء، حيث رفض سكانه مختلف الضغوطات متشبثين بمساكنهم وسط الأحياء الأوربية”.

المكان بناسه وروائحه :

تعج الرواية، كما أزقة الحي، بشخصيات عديدة لكل ميسمها، سواء من حيث الأصول، الثقافة، الجنس. ففيه يتجاور علال الماعوني ( المهاجر العائد من فرنسا والمسور ماديا) مع رحال المودني (بائع السمك ) مع القونصو (الإسكافي) مع رابح (بائع المتلاشيات) مع المكي الطباخ (العامل بفندق والسجين لاحقا ).

فيه أيضا، تتعالى الضحكات وتصخب النقاشات بين

الرجال في “فران الراجي “خاصة في أماسي رمضان.

في مقابل هذا الحضور الذكوري داخل الحي، تظهر الشخصيات النسائية التي تؤثث فضاء الحي وفضاء هذا العمل الروائي(الكاملة زوجة رابح – حادة زوجة الماعوني، زهرة زوجة الماروني ، سميرة – مليكة – مونية …).

جميع شخصيات الرواية لا تجمعها جدران الحي العتيق فقط، بل علائق اجتماعية تسمو ببعدها الإنساني والتضامني عن كل اعتبار: “زقاق لا تتعدى دوره خمس عشرة دارا، تسكنه حوالي عشرين عائلة تآلفت مع بعضها مع مرور الوقت، وأصبحت مصائرها متشابكة بآمالها وأحزانها” (ص8) رغم ما يمايزها ماديا ويحددها طبقيا ( امتياز شراء ثلاجة، تلفاز، الربط بشبكة الماء الصالح للشرب وتمثله عائلة علال الماعوني) أو طبقة الحرفيين من حدادين ونجارين وبائعي السمك والخرذة..

وكما تعددت وظائف ومصائر رجال “الحي العتيق”، تعددت صور المرأة داخل المتن الروائي، وإن غلبت عليها صورة المرأة ربة البيت بالنظر إلى المرحلة التاريخية التي تغطيها الرواية، والسياق الاجتماعي السائد آنذاك وهي ما مرحلة ما قبل الاستقلال وما بعدها بعقدين.

من ربة البيت الحاضرة بقوة، دينامو الأسرة( حادة، زوجة علال الماعوني، زهرة، الكاملة، الزوهرة، البتول، الغالية…) إلى الطالبة الطامحة إلى بناء مستقبل بعيدا عن حماية وسلطة الأب والزوج (مثال زبيدة بنت العربي الصباغ التي أصبحت طبيبة)، وهي إشارة إلى بداية تحرر الفكر الذكوري من فكرة المرأة الصالحة للبيت ولمؤسسة الزواج فقط وهو ما يؤشر عليه رفض والدها تزويجها من أجل ضمان مستقبلها الدراسي.

نجد أيضا سميرة لغز الرواية، الفتاة اليتيمة، المتحررة، المتمردة على تقاليد اللباس والمستمتعة بمباهج الحياة (الموسيقى) والهاربة من جحيم مؤسسة الزواج وعنف الزوج، سميرة الباحثة عن الاستقرار النفسي والمادي من خلال عمل شريف رغم الصورة النمطية التي كونها أهل الحي عنها، والذين لم يتقبلوا أن تقاسمهم السكن امرأة وحيدة بدون زوج، هذا المسار سينتهي بقتل سميرة، ومن ثمة قتل فكرة تقبل الآخر المختلف، ثقافة ولباسا وفكرا، لمجرد أنه لم ينتظم داخل ثقافة الجماعة ولم ينضبط لتقاليد العرف السائد وليس القانون.

تحضر المرأة التي تحاول الخروج من وضعية التبعية الاقتصادية لتحقيق الاستقلال المادي وتحسين دخلها، المرأة المعيلة للأسرة بعد وفاة زوجها (نموذج حبيبة زوجة مسعود)..

هذه النماذج التي قدمتها الرواية حول المرأة تشي ببوادر تغيير في الفكر المهيمن في فترة ما قبل الاستقلال وبعده والتي كان للفكر الوطني ولرجالات الحركة الوطنية دور فاعل في زعزعته.

أسئلة السياسة والكتابة

تحضر شخصية “قدور” طيلة أحداث الرواية، لكنه حضور يوجه بين الفينة والأخرى دفة الحكي إلى مراحل مفصلية في تاريخ الحي تحديدا، وفي نفس الآن تاريخ مغرب آخذ في التشكل والتحول.

قدور ماكينة الحكي التي تدور، الجراب العامر بالأسرار: أسرار التاريخ، أسرار المقاومة إبان تشكل أنوية الحركة الوطنية، حيث “درب غلف” شكل التربة الخصبة لشتلة التحرر من الاستعمار، ومنه كان ينطلق تأسيس الخلايا التي كان امتدادها وإشعاعها يصلان إلى مناطق أخرى من المغرب عبر العلاقات العائلية (ص38).

قدور القادم في بداية الخمسينات إلى الحي العتيق، يعيش رفقة بناته الثلاث، حارس القيم والأخلاق (ص39) ، قدم من إحدى قرى الرحامنة بعد سنوات قحط عجاف (عام البون)، جاء مشيا على الأقدام إلى الدار البيضاء قبل أن ينخرط في صفوف الجيش الفرنسي ويجد نفسه في الهند الصينية يحارب عدوا لا يعرفه، يحارب من غير قضية ولا هدف إلى حين اعتقاله من طرف ثوار الفيتنام وعودته الى المغرب. بعد ذلك سيلتحق بثكنة بورنازيل “54-55).

عايش قدور المظاهرات التي أعقبت نفي الملك محمد الخامس، وكان صلة وصل بين رجال المقاومة ومدربا لهم على حمل السلاح بفضل تجربته في حرب الهند الصينية. وبعد طرده من الجيش الفرنسي سيزج به في السجن الذي لم يغادره إلا بعد 16 شهرا، أي بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى ليجد زوجته قد توفيت.

ومن أجواء الحركة الوطنية وتحديدا عقدين بعد الاستقلال، تطرح الرواية – ضمنا – مصير الوطنيين والمناضلين الذين واصلوا بناء مغرب ما بعد الاستقلال، مغرب الحريات والانتقال الديمقراطي والذين ووجهوا بحملات القمع والتضييق أو ما يعرف أدبيا وحقوقيا بسنوات الرصاص.

تعلو في الرواية أصوات المتظاهرين في شوارع البيضاء( انتفاضة 20 يونيو 1981) وتخيم أجواء السبت الأسود بعد الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية اللشغل بعد الزيادة في الأسعار. تحضر أيضا المظاهرات التلاميذية لـ23 مارس 1965 بعد قرار المنع من مواصلة الدراسة الثانوية للطلبة الأكبر من 17 سنة، وهي الأحداث التي أودت بحياة 12 شخصا من سكان درب غلف بينهم طفلة في 12، عُدُّوا من بين “شهداء كوميرا” كما وصفهم إدريس البصري وزير الداخلية آنذاك.

وفي غمرة السياسي، تحضر أسئلة الكتابة والصحافة والقراءة، حيث كان لمهنة الصحافة آنذاك أصول وقواعد وأخلاق لا تكفي الشهادات للتغافل عنها.

القراءة والكتابة شكلتا ملاذا حقيقيا لبعض الشخصيات في الرواية ولجيل كامل في الواقع، للتعبير ومحاولة قراءة الواقع والعالم بعين ثالثة، وهو ما برز مع شخصية الخال الذي يراقب ويحلل، يستنطق الأحداث بعين القارئ النهم الذي وجد في عملة بالمكتبة عملا وضالة تقيه التصحر والفراغ الفكري، وهو شخصية ظلت ترافق الراوي العليم منذ بداية الرواية إلى حين انطفاء شمعته.

حكايات “الحي العتيق” لم تنته (ص147) برحيل الكاتب إلى مدينة آسفي رفقة العائلة. كان الحنين يشد العائلة للعودة بين الفينة والأخرى من أجل السؤال عن أحوال من بقوا مرابطين أوفياء للمكان (188) ، وتذكر من رحلوا وتفرقت بهم السبل، ومن أجل استرجاع الذكريات مع أصدقاء الطفولة.

حكايات منها ما بقي مفتوحا على التأويل وإمكانات الخيال والتخييل، تنتظر من يكتب نهايتها..” حكايات مونية وسميرة، حكايات ناس الزقاق، من مات ومن لا يزال على قيد الحياة”.

هي حكايات حي بقدر ما ضاق حتى صار زقاقا، بقدر ما اتسع حتى أصبح بلادا لا تزال حكاياتها أيضا تبحث عن نهايات سعيدة.

‫شاهد أيضًا‬

الصراع المذهبي، وليس الدين، وراء “تهافت الفلاسفة”- الضربة القاضية الكاذبة * محمد عابد الجابري

(*) منقول عن موقع فكر ونقد 1- ضرورة التحرر من “الصواب الموروث” كتاب “تهت…