مالعمل:

     يظل أخيراً السؤال المشروع يطرح نفسه علينا هنا وهو : ما العمل؟.  

      هناك مثل شعبي عقلاني يقول: (على المرء أن يمدد قدميه على طول غطائه. ). أي: (إن الناس العقلاء يطرحون على أنفسهم دائماً المهام التي يستطيعون حلها). يقابله في الفقه السياسي مقولة عقلانية أيضاً تقول بضرورة التعامل العقلاني مع (الواقع الملموس في الزمن الملموس). 

      إن نظرة نقدية تحليلية لهذه المقولات تبين لنا, أن قضايانا العامة والخاصة, لا تخرج في واقع أمرها عن المحيط الذي ننشط ونمارس فيه إنتاجنا لخيراتنا المادية والروحية معاً, وبالتالي فنشاطنا هذا له معوقاته مثلما له مقوماته أيضاً التي غالباً ما تكون من داخل المحيط الذي ننشط فيه, وهي الأكثر أهمية وفاعلية وتأثيراً, دون أن نغفل المحيط الخارجي أيضاً وما يتركه من تأثير على هذا النشاط. بيد أن الحس الشعبي اكتشف بأن معوقات الداخل هي الأكثر تأثيراً عندما عبر عن ذلك بالمثل الشعبي الرائع القائل: (دود الخل منه وفيه).

     نعم, “إن دود الخل منه وفيه”, وهذا يعني في المفهوم السياسي أن أسباب تخلفنا وأزمة نهضتنا الأكثر تأثيراً على حياتنا تكمن فينا نحن, في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي المتخلف الذي ننشط فيه بشكل عام, وفي البنية الطبقية والفكرية لحامل خطابنا السياسي المفوُت حضاريا, الذي عاش وهم الأيدولوجيات الكبرى على حساب خصوصيات الواقع بشكل خاص. أي أن هذه الحوامل الاجتماعية/ السياسية التي قادت المشروع النهضوي العربي في صيغه الثلاث (القوميوالاشتراكي والديني) لم تستوعب بعد حركة التاريخ, ولم تصل بعد إلى مرحلة وعي الذات, وتحولها إلى قوى اجتماعية تعمل لذاتها وللمجتمع معاً. كما أن أسباب عجزنا تكمن أيضاً في استمرارية خطابنا الثقافي الماضوي الامتثالي الوثوقي الذي لم يزل يعتمد في آلية عمله فكراً وممارسةَ على النقل ومحاربة العقل والعقلانية… خطاب لم يزل يجد الحل في تجاوز أزمتنا بممارسة الدعاء والاتكاء على الكرامات والتمسح بشيوخ الطرق الصوفية, وقياس الشاهد على الغائب. 

     أمام هذا المعطيات لواقعنا, يفرض علينا الواقع الملموس في هذا الزمن الملموس البحث عن حلول تتناسب مع أزمة هذا الواقع اليوم. وهذا ما يدفعنا للتساؤل في هذا الاتجاه: إذا كانت الأيديولوجيات الكبرى, أو السرديات النظرية الكبرى لحركة التحرر العربية قد فشلت, فلماذا لا نبحث عن حلول أخرى تتناسب مع واقعنا,؟. مع تأكيدنا بأن هذه الحلول لا تخرج في جوهرها عن المضامين الإنسانية لتلك الأيديولوجيات وخاصة الوضعية منها وحتى الدينية, وهي الحرية والعدالة والمساوة, للمواطنين, هذه الشعارات التي تتضمن مفردات المواطنة والحرية الفردية وتحرير المرأة وبناء دولة المؤسسات أو دولة القانون, واحترام الرأي والرأي الآخر, ونشر حرية الصحافة والأحزاب, وتطبيق تداول السلطة, والعمل على نشر الفكر العقلاني والتنويري ومحاربة الفكر الظلامي والغيبي الذي يساهم في تكفير الأخر وقتله على الهوية, طائفية دينيه كانت أم فكرية وضعية. 

     إن كل هذه المفردات التي جئنا عليها هنا تتضمنها تلك المشاريع الكبرى بهذا الشكل أو ذاك, وتعتبر أن الشعب وحده هو صاحب القرار في التشريع لها وتطبيقها عبر ممثليه ومؤسسات دولته, مع اختلاف المشروع الإسلامي طبعاً عن الأيديولوجيات الوضعية في تبنيه للحاكمية التي تقول بأن التشريع الذي تقره هو تشريع مقدس, وهو وحده القادر على نشر العدالة والمساواة بين الناس. 

     نعود لنقول أمام هذه المعطيات وعلى رأسها معطى التجزئة والدولة القطرية التي أصبحت واقعاً ملموساً في زمننا الملوس:     تفرض علينا هذه الواقعية الإقرار بهذه الدولة التي لها أرض وشعب وحكومة وعلم ونقد واعتراف رسمي من الهيئات والمحافل الدولية, وأن أول قضية في مضمون هذا الإقرار بهذه الدولة, هو النظر في كيفية تحقيق كل تلك القضايا التي تهم حياة الفرد والمجتمع والممثلة في حرية الأنسان وعدالته ومساواته في هذه الدولة. أليس من المنطق أن ينال شعب هذه الدولة حقه في حريته وعدالته ومساواته والمشاركة في إدارة دولته ولو بالحد الأدنى, قبل أن يُطرح تحقيق هذه المهام على مستوى المشروع القومي أو الأممي وفقاً للطروحات الأيديولوجية القومية أو الأممية, في المفهوم الإسلامي أو الشيوعي؟, مع تأكيدنا هنا بأن الكثير من الأحزاب اليسارية قد تبنت مشروع المسألة القومية وضرورة ربط النضال القومي بالنضال الاشتراكي, وخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي . 

     لا أظن أن أي مفكر عقلاني أو سياسي بيده اليوم مقاليد السلطة ويغار على شعبه ووطنه سيقف ضد هذا الموقف أو الرؤية, إذا كان فعلاً يفكر ويعمل لمصلحة الشعب وليس لمصلحته, أو هو يريد من تلك الشعارات الأيديولوجية الكبرى سلاحاً بيده كي يحارب بها كل من ينتقد خطابه السياسي أو يهدد مصالحه واستمرارية بقائه في السلطة. وأعتقد أن هذا ما يجري اليوم من قبل العديد من القوى السياسية الحاكمة في الوطن العربي, فهي غالباً ما تقوم باتهام كل من ينتقدها أو ينتقد أيديولوجيتها ويطالبها بالإصلاح وضرورة تداول السلطة, بأنه يعمل ضد المشروع القومي والآمة العربية, أو ضد الإسلام. 

     إذاً لا حل للخروج من مأزق التخلف الذي نحن فيه إلا النظر بعقلانية في كيفية العمل داخل القطر الواحد أولاً – بعد أن أوصلت الأنظمة السياسية الحاكمة خلال عشرات السنين منذ استقلال هذه الأنظمة القطرية إلى أمر واقعي بكل معنى الكلمة -. ومن أجل الوصول إلى الوسائل الكفيلة لتحقيق هذه المهمة النهضوية يأتي في مقدمة الوسائل التي علينها الأخذ بها برأيي, العلمانية والديمقراطية. فإذا كانت العلمانية تعني في سياقها العام الاعتماد على العقل في بناء الدولة المدنية, أي دولة القانون والمؤسسات والمواطنة… دولة احترام الرأي والرأي الآخر من خلال الإقرار بالتعددية السياسية وتداول السلطة… دولة الحرية والعدالة والمساوة وتحرير المرأة… دولة تجاوز مجتمع العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, وبالتالي فصل الدين عن السياسة واعتبار الدين لله والوطن للجميع, دون المس بمقدسات هذا الدين وعقيدته والتعامل معه على أنه مسألة تخص الفرد وحريته, هذا الفرد الذي يجب على دولة العلمانية أن تعمل من أجل عودته إلى مرجعيته الإنسانية التي فقدها منذ مئات السنين تحت ضغط وعي مزيف وهوية مزيفه أبعدته عن انتمائه الحقيقي لوطنه وأمته بل وحتى أسرته, كما أفقدته إرادته وحريته في التفكير واتخاذ القرار المستقل المعبر عن شخصيته هو كإنسان له الحق في التعبير عن هذه الإنسانية. 

     إن العلمانية بتعبير آخر, هي إعادة بناء الوطن والمواطن بناءً عقلانيا من خلال تحكم هذا الإنسان في أدارة الدولة والمجتمع بعيداً عن أي سلطة استبدادية أو مطلقة في مرحلة تاريخية محددة, بما تمثله هذه الإدارة من قيم مادية ومعنوية تتمثل في بناء مؤسسات قادرة على تحقيق دولة المواطنة والقانون, هذه الدولة التي تعني في المحصلة حرية الفرد والجماعة في اختيار شكل هذه الدولة ونظام حكمها وحاملها الاجتماعي, هذا الاختيار الذي يفضي بالضرورة إلى الديمقراطية التي تعني شكلاَ: حرية الرأي والقول والتعبير والتنظيم السياسي والاحتجاج والتظاهر والترشح والتصويت وتداول السلطة, ومضموناً: يمثل, المشاركة الفردية والجماهيرية عبر منظمات وأحزاب ومتحدات للبحث عن السبل والوسائل والطرق التي تحقق صياغة القرارات وتنفيذها, التي تهم حياة الوطن والمواطن بما يضمن أمن واستقرار وتنمية الدولة والمجتمع. 

     من هنا نرى أن الديمقراطية والعلمانية وجهان لقضية واحدة, تهدفان إلى تحقيق (دولة المواطنة), دولة المشاركة والحرية والعدالة والمساوة بكل ما تتضمنه هذه الدولة من تجسيد للقيم الإنسانية, التي تشكل الأساس المتين لبناء أي مشروع من مشاريع حركة التحرر العربية وفي مقدمة هذا المشروع بناء الدولة المدنية بكل ما تحمله هذه الدولة من دلالات.

     على العموم لقد بقيت أيديولوجيات مشروع حركة التحرر العربية تمتاز عبر تاريخها العملي بمجموعة من السمات والخصائص كما حددها الدكتور “منذر خدام” في كتابه (أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة):

      أولا: تميزها بنزعتها التوفيقية / التلفيقية, بحيث تظل كل أيديولوجيا منها تمزج أكثر من تيار أيديولوجي أو يحاول تركيب خلطة أيديولوجية خاصة.

     ثانياً: لقد ظلت هذه الأيديولوجيات على اختلاف تياراتها تروج للعلاقات (الشخصانية- الكاريزمية) في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية. 

     ثالثاً: تتميز هذه التيارات الأيديولوجية بعدم الوضوح والتناقض, وهي سمة تتولد من طابعها الشخصاني ونزعتها التوفيقية / التلفيقية. 

     وعلى هذا الأساس نقول أخيراً: إن أية حكومة عربية أو معارضة سياسية لا تنهج العقلانية في سياستها أي لا تراعي الواقع وخصوصياته, وتظل تتعامل بعفوية وذاتية وشعارية طارحة مهام أكبر بكثير من قدرات أو إمكانيات حملتها الاجتماعيين الذين يعتقدون بأن الدولة والشعب ملكاً لهم وحدهم فقط, فبهذه العقلية المفوته حضاريا سوف تخسر هذه الحكومات ومعارضيها الشعب والدولة الممثلة لهما معاً, وما جرى في ثورات الربيع العربي من ردود أفعال سلبية ما بين سياسات الحكومات القائمة والمعارضة, وما آلت إليه هذه الردود من دمار للبلد والتلد, للحجر والشجر, مؤشراً على أن الجميع في سفينة واحدة, و أن أي شرخ فيها سيغرق الجميع وسيجعل من شهوة السلطة القائمة على دوافع أنانية ومرجعيات تقليدية مأزومة, سلاحاً لا يعرف إلا الدم والدمار مسلطاً على رقاب وحياة الجميع. أي الدخول في حروب همجية بربرية وحشية, أقل ما يقال عنها تلطيفاً لدلالاتها بأنها ثورات شعبية. بينما هي في حقيقتها حروب أهلية/ طائفية وقبلية سحقت أو طحنت كل شيء, وما نعيشه اليوم تحت مظلة ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.

 أمام كل ما جئنا عليه, ربما سنجد من يسأل وسؤاله هنا مشروع وهو: هل سقطت الأيديولوجيا؟.

     لا…لم تسقط الأيديولوجيا, فأنا لست مع نظرية التفريغ الأيديولوجي, فالأيديولوجيا لم تسقط, وإنما الذي سقط هو الصيغ الأيديولوجية الدوغمائية, التي لم تستطع أن تنزل إلى الواقع عبر حواملها الاجتماعين, وإنما أرادت لهذا الواقع أن يرتقي إليها دائما, أي عملت على لي عنق هذا الواقع كي ينسجم معها. وبالتالي أصبح كل جديد بدعة في الأيديولوجيا الإسلامية, وخيانة في الأيديولوجيا القومية أو الاشتراكية, وكل خروج عن الحاكمية في المشروع الإسلامي السياسي, وعن فقه الأمين العالم أو القائد الملهم في الأيديولوجية القومية أو الاشتراكية يشكل انحرافاً عن الفكر لدى الأحزاب الشيوعية والقومية والإسلامية. وبالتالي فكل طرح يتضمن ضرورة مراعاة خصوصيات الواقع العربي أثناء تطبيقنا لشعاراتنا القومية أو الاشتراكية أو الإسلامية بشكل عقلاني, يعتبر خيانة للأمة ومشروعها التحرري والنهضوي, وبالتالي تآمراً عليها مع المستعمر.

     إن الذي سقط على الساحة العربية حقيقة هي صيغ أيديولوجية جموديه وثوقيه أو علمويّة, كما سقطت عقلية القائد الملهم او الولي الفقيه, مثلها عملياً وفكرياً الإخوان المسلمون, وبعض الأحزاب اليسارية القومية والشيوعية التي اتخذت من سرير (بروكوست) و (اللدنية – عبادة الفرد), نهجاً لها.

كاتب وباحث من سورية.

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…