عندما طرأ خلاف او تباين حول مفهوم استقلال القضاء. فإن جلالة الملك سيتدخل في مناسبة لاحقة ليحسم الخلاف والتباين حول المفهوم الحقيقي لاستقلال السلطة القضائية. وذلك عندما ضمن ذلك وبصفته الدستورية كذلك كضمان لاستقلال السلطة وفقا لأحكام الفصل 107 من الدستور, في الرسالة التي وجهها إلى المؤتمر الدولي الأول للعدالة حول استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة, التي عقد يوم 02/04/2018 بمراكش إد ورد في الفقرة 15 من تلك الرسالة ما يلي:
«بغض النظر عما حققه المغرب من إنجازات، في بناء الإطار المؤسساتي لمنظومة العدالة، «فإنه يبقى منشغلا، مثل كل المجتمعات التي تولي أهمية قصوى للموضوع، بالرهانات «والتحديات التي تواجه القضاء عبر العالم.
«ويأتي في مقدمة هذه التحديات، ضمان تفعيل استقلال السلطة القضائية في الممارسة «والتطبيق، باعتبار أن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وأنه إذ «يرتب حقا للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي.
«فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من «القانون وحده مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته.
«وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو «إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية.
«كما أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية «للتنمية، يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات «الاقتصادية والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات.»
وأنه يتبين إذن أن جلالة الملك أكد على أن القانون يجب أن يكون هو الحكم بين المتقاضين بل عزز تأكيد عندما استعمل كلمة ان يجعل القاضي القانون وحده مرجعا لقراراته.
غير انه من الملاحظ أن كل من مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية ومشروع قانون المسطرة الجنائية هما المشروعين الذين سيحددان كيفية اصدار الأحكام على المتقاضي, إلا ان أيا منهما لم يشر أي منهما إلى ما اتى به دستور 2011 من مكتسبات. ولا الى ما أتت به الرسالة الملكية. ولم تدمج فيها تطبيقات واضحة للفصل 124 من الدستور الذي ينص على: «تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون.»
علما أن دستور 1996 وما قبله كان ينص في الفصل 83 فقط على ما يلي
«تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك.»
بينما دستور 2011 اشهد على التحول الذي يجب ان تخضع له الاحكام القضائي بضرورة التزامها بتطبيق القانون. وهو ما يعني ان الحكم الذي يحمل اسم جلالة الملك يجب ان يكون مطابقا للقانون.
وهكذا نلاحظ أن دستور 2011
1 – أسس لأول مرة للطابع الدستوري للقانون. عندما نص على ذلك في الفقرة الأخيرة من الفصل 6 من الدستور التي ورد فيها ما يلي:
«تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة.
2 – أوجب أن الأحكام القضائية لكي تحمل اسم جلالة الملك يجب أن تكون مطابقة للقانون.
هذه الدعائم الدستورية ستجد ترجمة مخلصة وكاملة لها في الرسالة الملكية الموجهة للمؤتمر الدولي حول استقلال السلطة القضائية.
وأعتقد أن مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية وشروع قانون المسطرة الجنائية يجب أن تلتحق بالإرادة الملكية الواضحة في جعل ما أتى به دستور 2011 من حقوق للمواطنين واقعا يستفيد منه المتقاضي سواء كان فردا أو جماعة.

المدخل الخامس :
مدى اخضاع البرلمان فيما يصدره تشريع وقوانين لدستور 2011
نأخذ أمثلة على لملاحظة حضور الازمة المتحدث عنها ونبدأ بالقانون المنظم للتنظيم القضائي.
حقا يمكن القول ان التنظيم القضائي الذي دخل حيز التنفيذ أخيرا، استحضر مضمون الفصل السادس من دليل حقوق الانسان الخاص بالقضاة والمدعين العامين والمحامين الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الانسان بالتعاون مع رابطة المحامين الدولية التابعة للأمم المتحدة في 02 يونيو 2003. وعلى الخصوص في فصله السادس. ووضع آلية للحيلولة دون اصدار احكام مختلفة باختلاف على المتقاضين امام نفس المحكمة. مع انهم يوجدون في نفس الوضعية. والزم بان تصدر نفس الاحكام على كل المتقاضين عندما يكونون في نفس الوضعية.
وبالفعل فإن قانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي أكد على وجوب تطبيق الحق في المساواة امام القانون عندما اعتبر بان التنظيم القضائي في المملكة يتكون من محاكم. وليس من قضاة. كما هو واضح من المادة الأول منه التي نصت على:
يشمل التنظيم القضائي:
أولا المحاكم الدرجة الأولى

………
كما نصت المادة 5 من نفس القانون على المبدأ المركزي والأساسي للتنظيم القضائي بالمغرب وهو وحدة القضاء. إذ تنص تلك المادة على ما يلي:
«يعتمد التنظيم القضائي على مبدأ وحدة القضاء. وتعتبر محكمة النقض اعلى هيئة «قضائية بالمملكة.
فالمادة 5 المشار اليها أعلاه تتكلم على وحدة القضاء. أي انها تتوجه الى الحكم الذي تصدره المحاكم. كما انها تعتبر كجواب على سؤال نية الدولة في احداث محكمة عليا للقضاء الإداري بانه لا رغبة اليوم في انشاء محكمة عليا للقضاء الإداري مستقلة على محكمة لنقض. وهو ما يعني وجوب توحيد العمل القضائي على كل المتقاضين في المغرب. بل ذهبت تلك المادة الى حث محكمة النقض بان تعمل على توحيد الاجتهاد في كل المحاكم على الصعيد الوطني. وتوحيد الاجتهاد القضائي هو الوسيلة الوحيدة لمنع التمييز في تطبيق القانون. وفقا لما ينص على الفصل السادس من الدليل المشار اليه أعلاه.
غير ان مما اتي به التنظيم القضائي هو انه رفع عن مهام القاضي استقلاليتها عن المحكمة التي يعمل بها. عندما اخضعه الى سلطة المسؤول القضائي بها. وهو ما يتبين من المادة 7 من قانون 15.38 المتعلق بالتنظيم القضائي التي ورد فيها ما يلي:
«تمارس المحاكم مهامها القضائية تحت سلطة المسؤولين القضائيين بها، مع مراعاة مقتضيات «المادة 42 من القانون التنظيمي رقم 13.106 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، وتمارس مهامها «الادارية والمالية تحت إشراف المسؤولين القضائيين والاداريين بها، بما يؤمن انتظام واستمرارية «الخدمات التي تقدمها.
«تعقد المحاكم جلساتها بكيفية منتظمة لا يجوز بأي حال من الاحوال، الاخلال بالسير العادي «لعمل المحاكم. ويتعين على المسؤولين المعنيين اتخاذ جميع التدابير اللازمة لذلك طبقا للقانون، «بما في ذلك برنامج الرخص الادارية للقضاة والموظفين العاملين بالمحكمة.
فالمادة 7 من التنظيم القضائي جعلت مهام القاضي القضائية, أي الاحكام التي يصدرها, تحت سلطة المسؤول القضائي لمحكمة التي يعمل بها. أي تحت سلطة رئيس المحكمة. بل ان تلك السلطة تجاوزت مهامه القضائية الى الدخول في حياته الخاصة عندما رخصت لرئيس المحكمة تحديد برنامج رخصته الإدارية. علما ان تلك الرخصة تتداخل بين ماو شخصي وما هو وظيفي. وكان من الاحسن السكوت على هذا التداخل كما هو كان الوضع في السابق وليس تغليب بنص القانون الجانب على آخر.
فالمادة 7 المذكورة تطرح اليوم سؤال حول المفهوم الجديد لاستقلال القاضي. خصوصا:
1 – أنها استعملت نفس الصيغة القانونية المستعملة في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة بخصوص قضاة النيابة العامة. وهي الصيغة المستعملة في المادة 25 منه التي تنص على أن قضاة النيابة العامة يعملون تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين.
2 – ان القانون التنظيم القضائي تداولت فيه المحكمة الدستورية بطلب من رئيس الحكومة السابقة مرة أولى. تم مرة ثانية وبعد ذلك صادقت عليه فيها. بعدما اعتبرت ان بعض مواده مطابقة للدستور. وبعضها ليس فيه ما يخالف الدستور.
وكمثال ثاني على القانون غير العادل نورد ما أتت به مدونة الحقوق العينية في المادة 2 منها التي أصبحت تلزم كل من يملك عقارا مثل بيته الذي يسكنه وعائلته بان ينتقل بانتظام الى المحافظة من اجل التحقق هل لازال العقار في اسمه ام تم التشطيب على اسمه وسجل محله اسم شخص آخر تملك عقاره بعقد مزور. وإلا تم طرده من منزله بعد 4 سنوات. إذ تنص تلك المادة على ما يلي:
«إن الرسوم العقارية وما تتضمنه من تقييدات تابعة لإنشائها تحفظ الحق الذي تنص عليه «وتكون حجة في مواجهة الغير على أن الشخص المعين بها هو فعلا صاحب الحقوق المبينة «فيها.
“إن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك “به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلا إذا كان “صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو استعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة “بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه.
فهذه المادة تلزم المالك الأصلي لمنزله بان ينتقل كل مرة للمحافظة العقارية ليتحقق هل منزله لازال مسجلا في اسمه ام تم التشطيب عليه من الرسم العقاري بالمحافظة العقارية حتى ولو تم ذلك التشطيب بعقد مزور.
إذ ان الحكومة التي اقترحت تلك المادة. والبرلمان الذي صوت عليها في الفترة ما بين 2011 و2016 بدل ان يحميا معا حق الملكية وفقا لما ينص عليه الدستور. قرروا حماية من يستعمل التزوير. أي من يخالف القانون.
فهذا القانون وان صدر عن البرلمان فهو قانون غير عادل. لكن القاضي ملزم بتطبيقه. مما يؤدي الى المس بشروط المحاكمة العادلة. ليس بسبب حكم القاضي. وإنما بسبب القانون غير العادل الذي سنته الحكومة وصوت عليه البرلمان آنذاك.
والسلام .
انتهى

نشرت الدراسة على اربعة حلقات شهر يونيو 2023.

‫شاهد أيضًا‬

البراءة التامة من كل ما نسب إلينا * مصطفى المتوكل الساحلي

الحمد لله والشكر الكبير لهيئة الدفاع … البراءة التامة من كل ما نسب إلينا أشارككم وأح…