ذكورية اللغة العربية واضطهاد المرأة : الأصول والامتدادات

مقدمة:

ما كان للحقوق التي حقّقتها المرأة المغربية في العقود الأخيـرة،  ولا الخطوات الكبيرة التي أنجزتها في استعادة بعض الحقوق التي ضاعت في زحمة  عديد من الأحكام الاجتماعية والسياسية، والسلط العُرفية والعقدية، وكثير من التأويلات المحكومة بخلفيات مذهبية أو طائفية أن تتحقق   لولا الإرادة القوية التي أبانت عنها المرأة المغربية نفسها، عبر مسار تاريخها الحديث، ونضالها المستمر والمستميت في كل المؤسسات، الوطنية والدولية، الرسمية والموازية منها، جنبا إلى جنب الرّجل المغربي المؤمن بوحدة النّفس البشرية، ومساواتها في الحقوق والواجبات، واختلافهما في البيولوجيا، مما تُسميهأسماء المرابط “الخَلق بالتساوي” (la création égalitaire)، ذكورا كانوا أم إناثا.

مع كل ذلك، ما يزال الطريق أمامالمرأة طويلا لاستكمال الحقوق وتحقيق المساواة “الكاملة” بينها وبين الرجل، وبلوغ الإنصاف المطلوب.  وما يزال التفاوت بين صورتها في التمثلات الاجتماعية عن ذاتها، وعند الرجل نفسه، وبين حقيقتها في الواقع الاجتماعي، يُؤشر على حجم “النضال” الذي ينتظرها، لتحقيق مطلب المساواة، وإن على أساس التّدرج والتراكم. ولنا في المطالبة بمراجعة مُدونة الأسرة التي دعا إليها ملك البلاد في خطاب العرش لسنة 2022، ومراسلته لرئيس الحكومة في هذا الصدد،  أحسن الأمثلة الدالة على طول الطريق وصعوبته، وحجم “النضال” وآفاقه. ومن أهم الصعوبات المنتظرة وأعقدها ما يندرج ضمن ثنائية الذكورة والأنوثة في اللغة والثقافة وآثارها في التشريع والقانون، وامتدادها في بنود المدونة المرتقبة. وعلى هذه الأساس، ستنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أن مطلب المساواة بين الجنسين، في سياق مراجعة مدونة الأسرة،  والمطالبةبتعديلها، ومن منطلق مكتسبات دستور 2011، وخُطب الملك ورسائله، وما يوازيها، يقتضي استحضار تلك الثنائية ودورها في تشكيل التّمثلات حول الجنسين معا، وتكريسها لدُونية المرأة، مما قد يمتد إلى القوانين المنظمة للأسرة مَا لمْ تَأخذها بعين اعتبارالمؤسسات الدستورية من حكومة وبرلمان وهيئات دستورية .

أولا- إِفَادتان للتمهيد: 

الإفادة الأولى: حكاية ترويض المرأة الغربية على الصمت والوأد الثقافي

تحكي لنا مارينا ياغيلو(Marina Yaguello)،  وهي أستاذة  اللسانيات الاجتماعية في الجامعة السابعة بباريس، حكاية قديمة في أوروبا،  قائلة: “قديما كانت المرأة في أوروبا تلتزم الصمت في حضرة الرجال إلى أن يمنحها زوجها أو أبوها “اللغة”: يجب ألا تُغنّي الدجاجة أمام الدّيك”.

كانت المرأة في أوروبا عصرئذ مجرد ” عُشٌّ من الكلام السّيء”، أي امرأة ثرثارة ومهذارة في الخطاب الذكوري، ولذلك يجب أن  تُروض على الصّمت، ولا تتكلم، وإنْ تكلمت، فلا تتكلم إلا إذا أذِن لها الرّجل، ومَن له عليها سلطة من الذكور. ربما ذلك ما جرى في أوروبا، وكثير من دول العالم عبر مسار تاريخي معين،  ووجد حلا معينا عند كثير منها، وظل مستمرا في كثير منها. الأمر الذي يعني بأن اللغة هي مدار الصراع في معركة المساواة  بين الجنسين، ممثلة في ثنائية المؤنث والمذكر، وارتباطها اللزومي بتمثلاتنا الثقافية التي ترسخت عبر الزمان حتى صارت حقائق لا يأتيها الباطل من الجهات الأربع، وتجسدت في قوانين وتشريعات “متعالية”، ما دامت اللغة  عنصرا فعالا في تشكل الثقافة وطريقة لتعلم الانتماء إليها.

الإفادة الثانية: حكاية المرأة العربية والفحولة البلاغية والوأد الثقافي

يورد الجاحظ في كتابه، البيان والتبيين، وهو من كبار البلاغيين العرب المنتصرين للعروبة وفصاحة لغتها، من موقع أنه صاحب نِحلة فكرية وسياسية، في سياق ما يعتري اللسان من ضروب الآفات، حكاية طلاق”أبي رمادة لامرأته حين وجدها لثغاء وخاف أن تجيئه بولد ألثغ”(من كانت بلسانه لثغةٌ، أي ينطق السّين ثاءً والرّاءُ عَيناً، أو ياءً). بمعنى أن جهاز نطقها غير سليم، ويعاني من آفات صوتية وصواتية. فهي بذلك أقرب إلى العُجمة منها إلى فصاحة العروبة المشروطة بسلامة  جهاز النطق. بهذا المعنى، فالمرأة خللٌ بلاغيّ ينبغي إصلاحه بالصمت والمنع من الكلام،أو بالطلاق، وهو أبغض الحلال عند الله. فالمرأة غير فصيحة ومحتمل جدا أن تجئ بولد ألْثَغ، غير فصيح ولا بليغ وبالتالي أعجمي وغير عربي، ومن ثم تورث العُجمة لأولاد زوجها، وتلك مسؤولية تدعو إلى إمساكها عن الكلام حتى يقضي الله في أمرا كان مفعولا، أو اللجوء إلى الطلاق أوأبغض الحلال. وتلكمن سُلط الرّجل دون غيره.

ثانيا- المرأة والنص الدستوري ومطلب مراجعة مدونة الأسرة بين المتاح والمأمول

  1. عن مساواة الجنسين في دستور المملكة بين إعلان النوايا وإكراهات الممارسة

استئناسا بالإفادتين أعلاه،  واستلهاما لسياقهما التاريخي، واستحضارا لمختلف مرجعيتهما اللغوية والثقافية والتاريخية والحضارية، وارتباطا بموضوعنا عن الذكورة والأنوثة، نعتبر أن إصلاح  مدونة الأسرة المغربية، وتجديد النظر في نظامها القانوني، بعدما استنفذت راهنيتها، مرتبط باللغة والثقافة ارتباطا عُضويا. ومن هذه الزاوية، نعتبر أن مصير المساواة بين الجنسين في كل الحقوق والواجبات، وبالنظر إلى النقاش الواسع  بين قطبين متباعدين تعرفه الساحة الوطنية في الموضوع، تارة بالمطالبة بمراجعة المدونة دون المساس بما يُعتبر “قطعي” الدلالة والثّبوت، مثل منظومة الإرث وما سواها، بمُسوغ سُمو الدين وتعاليه  على غيره من القوانين الوضعية، أو بمسوغ صَوْن صُورة إمارة المؤمنين وسقف صلاحياتها الدستورية والرمزية والهوياتية، وتارة أخرى بالمطالبة بمراجعتها بشكل شامل وجرئ وجذري، على أساس احتمالية الدلالة وظنية الأحكام، ومتغيرات المجتمع وتحولاته العميقة، وعلى قاعدة سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية. والجمع بين القطبين  أو حتى التقريب بينهما، أمر متعذر ما لم يقم على حوار بناء وهادئ، وبكثير من التواضع ومراعاة المصلحة المُثلى للوطن. وهذا يقتضي، ضمن ما يقتضي، تأمل معادلة الذكورة والأنوثة وامتدادها في “طبيعة علاقاتنا الاجتماعية”، وما تعرفه من اختلالات في اللغة والثقافة والتشريع والقانون، ينبغي الوعي بها فالتنبيه إليها في الحسم في سؤال المساواة بين الجنسين، بالانتصار التدريجي والتاريخاني لها، عبر مساءلة تمثلاتنا عنها، وإعادة النظر في تصوراتنا لها، وتفكيك بنيتها الرمزية، وبالتالي “فلا قيمة للمساواة القانونية ولا تأثير فعلي لها دون تفكيكها، وهي تحتضن سلسلة الأحكام الخاصة بعوالم المذكر والمؤنث، مثلا”.

بالرجوع إلى دستور المملكة المغربية لسنة 2011، وفي فصوله السادس(6)، والتاسع عشر(19)، والمائة وستة وأربعون (146)، نجده يُقر  بمبدأ المساواة  في الحقوق والواجبات بين جميع مواطنيه ومواطناته في مختلف مناحي الحياة،  بل ويُقِر كذلك بمبدأ المساواة بين الجنسين، وعلى أساس الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب،  وذلك في أفق تحقيق المناصفة والقضاء على كل أشكال التمييز والفوارق الحاصلة في المجتمع، والمستحكمة في اللغة والثقافة والقانون.  فالدستور المغربي، كباقي دساتير العالم، عبارة عن وثيقة تعبر عن “نوايا حسنة” لما ينبغي أن تكون عليه الدولة والمجتمع. وبما أن الدستور المغربي خطاب مكتوب بلغة طبيعية، فهو بالضرورة حَمّال أوْجُه،” لا يقول كل شيء من خلال منطوق لفظه. المضمر فيه أقوى من المصرح به، والضمني أشد وقعا في التنزيل من دلالة الملفوظ وأحكامه”. ففي ما هو أبعد من “النص الدستوري”، هناك نصوص السياسة والتاريخ والدين ومصالح المؤسسة ذاتها”(بنكراد،  الدستور المغربي الجديد، ص6-7)، تجد مجالا مناسبا للتصريف فيالمؤسسات الموازية في مقدمتها البرلمان، وتخضع  لتأويلات ممكنة ومفتوحة بسياقات لا متناهية أصلها في اللغة والثقافة بالأساس باعتبارها صناعة بشرية ذكورية.

وعلى الرغم من إقرار الدستور، في الفصول المذكورة أعلاه، للمساواة بين الجنسين، وتمتيعهما معا، وعلى قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، بناء على المواثيق الدولية واتفاقيات حقوق الإنسان، فإنه  سرعان ما يُقيد تلك الحقوق،  ويُقلص من مساحة مبدأ المناصفة، ويشرطه ب “نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”. نحن إذن أمام مساواة مشروطة وبالتالي منقوصة تمتد إلى مدونة الأسرة وتستقر في موادها القانونية لتشهد على مفارقات صارخة، سواء مع “القوانين الدولية، ومنها حقوق الإنسان التي لا تقبل التجزيء ولا التراتبية أو الانتقائية”(الحنوشي، ص173) أو مع المعلن الدستوري،  القائم على آلية العطاء باليُمنى والَمنع باليُسرى، لأنه ببساطة لا ينطلق من “مبدأ إنساني تتمتع داخله المرأة بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها الرجل، وهو ما تعبر عنه الفقرة الأولى من الفصل 19، بل يتحقق في ما يمكن أن تسمح به الثوابت المحلية التي تندرج ضمنها أحكام الدين بما فيها “الولاية” و”القِوامة” و”التعدد في الزوجات” و”التمييز” في الإرث “وسن الزواج”… وهو ما يجب النظر فيه بمناسبة فتح  ورشتعديل مدونة الأسرة المرتقب، ولكن بعقلية منفتحة، وعلى أساس مقاصد الشرع، ومراعاة متغيرات المجتمع والأسرة ومستقبل الأطفال والوطن.

غير أن المطلب الدستوري في تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين، وبالتالي الإقرار الفعلي للمناصفة بينهما  في القانون الأسري  في الحقوق كما في الواجبات،  غير كاف تماما، ولا إجرائي ما لم يتم استحضار مفهومي الذكورة والأنوثة، علما بأنه “لا قيمة للمساواة القانونية ولا تأثير فعلي لها دون تفكيك البنية الرمزية التي تحتضن سلسلة الأحكام الخاصة بالمذكر والمؤنث”، وأصلهما في اللغة والثقافة. فلا ينبغي للدجاجة أن تَصِيح كما يصيح الدّيك، ولا أن تقرأ وتتعلم كما يقرأ  الرَّجل ويتعلّم، حتى لا تزداد سُماً ومكرا فسطوة ومساواة.  فتلك “حكمة” الأعرابي الذي “مرّ بامرأةٍتقرأ، فقال: الأفعى تَزْداد سُماً”.والأفعى في الأساطير القديمة وامتدادها الراهن مرادفة للمعرفة والحكمة، بل هي الداء والدواء، والموت والحياة، وفي الوقت نفسه فهي مُطابقة للغواية والإغراء والحيلة والشر كله. وعليه،فإن دعوات ملك البلاد وتوجيهاته في خطاب العرش ليوم 30 يوليوز2022، على أهميتها وتقدمها، ومطالب دعاة المساواة والإنصاف،قد تصطدمبعوائق اللغة لطبيعتها الذكورية، وأثرها على الثقافة والتنشئة الاجتماعية، لرسوخها الشعوري واللاشعوري  عند الفرد والجماعة، وتمتد إلى الممارسة والوظيفةوالتشريع.

  1. في تحيين مدونة الأسرة وتحقيق المساواة بين الجنسين وتحديات الحَدّيْن

لم يتوان ملك البلاد، قولا وفعلا، في الدفاع عن حقوق المرأة القانونية والشرعية، ودعواته بالمساواة بين الجنسين، والنهوض بوضعية الأسرة وتوازنها. فالأمر هنا، كما يقول جلالة الملك: “لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية؛ وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية. وفي مغرب اليوم، لا يمكن أن تُحرم المرأة من حقوقها. وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها”. كما لم يكتف الملك فقط بتشخيص واقع أسرة تم تجاوزه، بل اقترح تصورا ومنهجا لاستكمال مسيرة الإصلاح والتحديث، وتحت يافطة إمارة المؤمنين. وهو ما ورد في خطابه المذكور قائلا:” إذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها. وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية”.

وندّعي رغم “النيات الحسنة” التي يُعبر عنها دستور المملكة، ودعوات رأس الدولة ورئيسها إلى الرُّقي بمكانة المرأة والسمو بحقوقها لبلوغ مبدأ المساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات، بمختلف مستوياتها، إلا أن الأمر متعذر وغير قابل للإنجاز ما لم يتم الوعي بخطورة ثنائية الذكورة والأنوثة في اللغة والثقافة فالقانون، وامتدادها في مؤسسات الدولة ( بما فيها المدرسة والجامعة والإعلام، وغيرها) وبين أفراد المجتمع، ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، مادام التخلص من اللغة وتغييرها أمر مكلف. وتلك فَرْضية هذه الدراسة وما تعرضه للنظر  والتأمل والحوار، في سياق إلحاح ملك البلاد على مراجعة مدونة الأسرة، وحثّ المعنيين بضرورة”تفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية للنهوض بوضعية المرأة”، ولكن وفق ثنائية أخرى وحاسمة، تتجلى في مراعاة حدود يضعها الخطاب الديني ومؤسساته، وأخرى تتمثل في تحولات المجتمع المغربي السريعة، وبالتالي بين ثنائية “الثابت” الديني الإسلامي، و”المتحول” الاجتماعي والأسري. والسير بين حدّ يبدو ثابتا، و”مقدسا”، وحدٍ مُتحرك، بل وسريع التحرك، يضع اللغة والثقافة والقانون في وضع تأمل وبحث. الشيء الذي دعا ملك البلاد إلى اقتراح مدخل مقاصد الشريعة، وما تقتضيه من اعتدال وتدعو إليه من اجتهاد منفتح في مراجعة المدونة وصياغة بنودها. ممّا يشي بصعوبة الحوار والنقاش وبالتالي التوفيق بين موقفين حَدّيَيْن، واحد يتشبث بحدّ الثبات والمحافظة على المعطى التاريخي واللغوي والثقافي والحضاري للأمة، وعادةُ صيّاح الديك، وموقف آخر ينتصر لحدٍ مُخالف، يقوم على سيرورة التاريخ، وإمكان صياح الدجاجة و”تجرع” سُمّ القراءة، ومنطق التحول والانتظام في المتاح البشري. وبين الحدّيْن ترسم الحدود التي تتولى صياغة الأخلاق والأحكام الدينية والاجتماعية والثقافية والقانونية، وترسم العتبات وتقيس المقبول والمرفوض، والحلال والحرام، والحق والواجب والممكن والمستحيل… لضمان الانتماء إلى الدولة والمجتمع. وحماية الحدود ضمان لاستقرار الوضع واستمراريته، وتحطيمها رغبة في تجاوزها ورسم أخرى جديدة تتيح للمرأة أن “تصيح” كما “يصيح” الرجل، وتتعلم كما يتعلم، وتلك من أهم تحديات مطلب تعديل مدونة الأسرة المرتقب، وتلك “هي حالات الثُّوار حين يعبرون عن رغبتهم في رسم حدود جديدة يصبح  العالم داخلها عادلا وسعيدا وممتعا ومِلْكا لكل الناس. وذلك هو السر الدفين في وجدان الإنسان: في حالة عجزه عن تغيير الواقع يعمد عادة إلى تغيير تمثلاته عنه”.وتغيير التمثلات معركة لغوية وفكرية وثقافية وتاريخية وحضارية، تمهد للتغيير القانوني والتشريعي، وما يترتب عنهما في الدولة والمجتمع، لا نستثني منهما مدونة الأسرة المرتقبة.

ثالثا- اللغة والثقافة، وثنائية الذكورة والأنوثة وانعكاسها على قانون مدونة الأسرة

  1. ذكورية اللغة العربية واضطهاد المرأة: الأصول والامتدادات

من تحصيل الحاصل القول بأن الذكورة والأنوثة خاصيتان بيولوجيتان، لكن تحققهما يحصل في اللغة، وتتولى الثقافة تَصريفهما، باعتبارها مستودعا للقيم والأحكام والأدوار والوظائف والمواقع. وهما بذلك، أصل التلاقح والتناسل والتكاثر بالنسبة لكل الكائنات الحية، ومنتهاه منذ الأزل، ولكن ما إن تتدخل اللغة والثقافة في ذلك الأصل البيولوجي حتى  يتعدد ويتنوع ويختلف ويتلوّن بمعتقدات الناس وتصوراتهم وتأويلاتهم  للذكر بما هو  أصل، وللأنثى بما هي فرع، وليس الأصل كالفرع ،  ولا النموذج كالنسخة، كما “ليس الذكر كالأنثى” ولا الصبي كالصبية، ما دام “الرجال قوامون على النساء”، ولهم “عليهن درجة”. ذلك ما تتيحه اللغة العربية للناطقين بها، وما ترسخه الثقافة بعد نسيان كل شيء، وذلك ما يتجسد في نصوص القانون والتشريع بعد كل ذلك.

على هذا الأساس، فإن مطلب تعديل مدونة الأسرة المرتقب وإصلاح نظامها القانوني، وفي ظل هيمنة مثل تلك التمثلات الراسخة عن الذكر والأنثى، والنابعة من مرجعية ذات طبيعة قُدسية، من عسير المطالب وأجلّها وأعظمها. وربما لذلك تثير ردود فعل متشنجة، وأحيانا “عنيفة” من هذه الجهة أو تلك، وتصْحبها كثير من الإشاعات والمزايدات والتأويلات والادعاءات والاصطفافات، وصراع المرجعيات، التي تزيد من درجة الاحتقان بين القيّمين على التعديل والمعنيين به والمساهمين فيه وحتى المتابعين له، كما حصل زمن حكومة التناوب التوافقي(1998-2022) وأجواء إعداد النسخة الأولى من مدونة الأسرة ، وبوادر ما يجري اليوم إبان الإعداد للنسخة الثانية، بين مناصر ومعارض. والتخفيف من حدة الصراع ذاك، وتليين درجة الاحتقان هذا، رهين، فضلا عن إعمال الحوار الهادئ، ونبذ العنف بدرجاته، باستحضار ثنائية الذكورة والأنوثة في اللغة بمستوياتها المختلفة، والثقافة بشتى تجلياتها، من أجل إعداد مدونة مواكبة لمدونة الأسرة في تحولاتها، تنصف الرجل والمرأة والأسرة والمجتمع، وتحفظ انسجامها دون تجاوز للحدود وحرق للسفن، ودون تغليب لهذا الحد أو ذاك.

من تحصيل الحاصل القول بأن اللغة هي الأداة الوحيدة التي ستصاغ بها بنود المدونة وفصولها، وتدبج بها مقدمتها وإطارها العام. ومادام الأمر كذلك، فهي “متهمة” منذ البدء بالانتصار لطرف دون آخر، والانحياز للذكورة على حساب الأنوثة، وبالتالي تغليب جهة الرجل على المرأة وترجيحها في القانون والتشريع. فاللغة، وبالتحديد العربية منها، على غرار غالبية لغات العالم المتداولة، على الأقل تلك التي نعرفها بقدر أو بآخر، ليست محايدة في التعامل مع ثنائية الذكورة والأنوثة، بل هي “خصم” معلن وظاهر للكائن الأنثوي، وبالتحديد للمرأة وما يرتبط بها. فاللغة أداة قهر واضطهاد للمرأة، وآلية  تمييز وتصنيف للعرق واللون والجنس والطبقة، خاصة وأنها الأداة التي تنقل الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة حيث تكتشف الذات فيه وجود أبعاد لها في الآخر وفي العالم المحيط بها. وهكذا، فاللغة مؤسسة لها قواعد وقوانين زجرية، بل وفاشية، كما سبق أن وصفها رولان بارت (BarthesR.)، تفرض على متكلميها ألا يخاطبوا الناس على قدم المساواة والإنصاف، وتجبـرهم على حمل الكلام أو التداول النفعي على التذكير. فلغة المرأة ليست مطابقة للغة الرجل، ولا لغة الفلاحين والعمال مشابهة للغة المهمشين والمشردين، ولا لغة العوام هي نفسها لغة الخواص، ولا لغة الملوك هي لغة رعاياهم، ولا لغة الأساتذة الباحثين في الجامعات هي لغة  الشارع والأسواق والمتاجر والمقاهي…فاللغة لا تُسمي فحسب بل تصنف وتأول وتقيم وتحكم وتقرر، فسلطتها لا تقل عن سلطة الدّرك والشرطة، وذوي الحكم والسلطة. والغريب المفارق في هذا الصدد، كما خلص إلى ذلك عبد الله الغذامي، على سبيل المثال، ذكورة اللغة وسلطتها القاهرة، وانتصارها الذكوري. فما إن تدخل المرأة مجال العمل الوظيفي فإنها تدخل  “في سياق التذكير، فهي (عضو) وهي (رئيس الجلسة) وهي أستاذ مساعد و(محاضر)”. ومن يملك سلطة اللغة يكون سيد القرار، وصانع القانون، وبالتالي متحكما في عناصر المعادلة المجتمعية والسياسية والاقتصادية وما يترتب عنها

وإذا كان المذكر/ الرجل/ آدم  في اللغة العربية، ونحن نتحدث عن مشروع تعديل مدونة الأسرة في المغرب، ونترقب تحقيق قيمة المساواة والإنصاف بين الجنسين على مختلف الأصعدة، هو من  أدخل العالم إلى اللغة، بأن سمى الأسماء كلها، وعلمها آدم /الرجل، دون حواء/المرأة، وصنفها خلَفُه من الذكور  وفق إرادته ومصلحته، وصاغ حُدودها وفق ما يستجيب لحاجاته وميولاته وأسئلته ومصلحته وموقعه داخل الأسرة فالعائلة والقبيلة والمجتمع، فالمدرسة والجامعة. فلا غرابة أن تعيش الأنثى/ المرأة حقائق العالم، بكل مستوياته، بعيون مُذكرة و”متجهمة”، وفي مقدمتها الدستور نفسه، أسمى وثيقة قانونية في المملكة، وما يرتبط بها من قوانين ومراسيم لاحقة. هنا تُولد سلطة المذكر على المؤنث، وهيمنته عليها، مادام “كل شيء يقاس على المذكر: فالمذكر هو “الصورة المثلى” و”الطريق القويم” و”مصدر للفعل” وأشكال تحققه: تعمل النساء كما يعمل الرجال وتركض وتجري كما  يفعل ذلك الرجال، وتداعب الكُرة كما يفعل اللاعبون الرجال، فليس للمؤنث معايير خاصة، فعالمه فرعي ولا وجود له في ذاته، لذلك فإن كل المعايير مُذكرة والمرأة قوية ولاعبة ماهرة بقدر اقترابها من صورة القُوة والمهارة كما بلورها وجْدان الرّجل”.

على هذا الأساس، فالوجود الإنساني، من منظور اللغة، والعربية منها بالتحديد، قائم على التذكير، باعتباره الأصل الأول لكل شيء،  لا شريك له، ودونه تفريع وتشقيق وتنويع لواجهات الوجود. ويكفي، على سبيل المثال، وما يقتضيه منطق اللغة أن يغلب مذكر واحد، حتى إن كان صبيا أو أُميا أو حتى  “غير عاقل”، ملايين النساء ويتفوق عليهن، وتُرجح كفته.  وعليه، فرجال التعليم، ومدرسة المهندسين ومدرسة الأساتذة،  ورجال المطافئ، وغيرها، تراكيب لغوية  تلغي النساء ولا تذكرهم إلا من باب الهامش والتبعية والاستيعاب، أسوة بأصل الخلق وقصته الذي جعل خلق حواء/ المرأة من ضلع آدم/ الرجل الأول. فاللغة مفتاح الوجود في حياة الإنسان، وإذا كان المفتاح مذكرا  صارت الأنثى قُفلا، ومن يملك المفتاح يملك الوجود كله، بكل خيراته ومقدراته، ويملك حق التشريع والتقنين، وما مدونة الأسرة سوى ركن من أركان وجوده الممتد.

بهذا المعنى، تكون اللغة، ونتحدث هنا عن اللغة العربية، حمالة لاضطهاد المرأة ومكرسة لدونيتها. فقد ورثنا هذا التّمثل عن طريق تنشئتنا الاجتماعية والثقافية،  ورثنا كذلك ثنائية التذكير والتأنيث في اللغة، حتى صرنا نتعلم كيف نفضل الذكر على الأنثى في الشهادة والإرث والولاية والقوامة والوظيفة والمتعة والتعصيب والتعدد، إلخ. وآلية التفضيل لغوية فثقافية بالضرورة، وبالتالي قانونية وتشريعية. فنحن نرث التذكير والتأنيث في اللغة وما يلزمها، و”نتعلم كيف نفضل الذكر على الأنثى في المجتمع استنادا إلى قواعد لغوية نتعلمها منذ الصغر. فقد يُعاقب التلميذ ويسقط في امتحانه إِن هو أنَّث المحراث، فهذا مذكر “يشق” الأرض المؤنثة و”يُخصبُها” لتعطي ثمارا”. فتلك قوة اللغة وذاك جبروتها، إن حقائقها لا تُبنى من تقدير موضوعي لأشياء الكون وكائناته، بل تُستمدّ من مواقف اجتماعية لا تكترث في الكثير من الحالات لحقائق الوجود الفعلية”. ذلك ما يُزكي الخلل في معادلة الذكورة والأنوثة ويشهد له، ويُمعن في اضطهاد الرجل للمرأة ويؤكده، ويُعقد أمر تعديل مدونة الأسرة، ويبطئ في سيرها ومواكبتها لواقع الأسرة والمجتمع في تغيرهما وتطورهما الحتميين.

  1. ذكورية قواعد النحو وقوامس العربية و اتهام “النموذج الرجالي”

بناء على ما سبق، نتهم (J’Accuse)، في سياق غير سياق إميل زولاE. Zola ،  اللغة العربية ونشير بأصابع الاتهام إلى قواعدها ونظامها النحوي، لما أسهمت فيه مجتمعة من ظلم المرأة وترسيخ تبعيتها، منذ تأسيسها إلى يومنا هذا. فالنحو بقواعده في العربية من أشد المضطهدين للمرأة، وأكثرهم منعا لمساواتها بالرجل من حيث اختلاف الضمائر وعلامات التأنيث المضافة، ولكن الدلالة داخلها تفصل بينهما من حيث طبيعة المضامين التي يعتمدها الناس من أجل المفاضلة بينهما. وهكذا، يُحْمل الكلام أو الخطاب على التذكير عند الجمع بين طفل، قد يكون صبيا معتوهاوملايين من النساء الجامعيات أو القاضيات أو من ذوات الكفاءات العالية في السياسة والاقتصاد. فنحو اللغة ذكوري غالب ومهيمن، ودونه أنثوي تابعٌ وعَرضٌ.وهو ما أقره مؤسس النحو العربي ونظر له لما قال بأن “التذكير هو أصل الأشياء ثم تُختص بعدُ، فكل مؤنث شيء، والشيء يذكر، فالتذكير أول، وهو أشدّ تمكنا “. وهو ما زكاه فيما بعد ابن جني وقرره، وهو من كبار النحاة العرب أيضا، ورسخه حتى صار قاعدة ثابتة، تسود وتحكم. لذلك كان تذكير المؤنث واسعا جدا لأنه رد فرع إلى أصل، لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب”،ذلك ما شهد له زعيم النحويين أبو العباس المبرد وزكاه، وقدّره لما أكد بالقول:“فكل ما لا يُعرف أمذكر هو أم مؤنث، فحقُّه أن يكون مُذكرا، لأن التأنيث لغير الحيوانات إنما هو تأنيث بعلامة”. وهكذا، يكون التذكير أصلا وزيادة، فيما يكون التأنيث فرعا ونقصا يحتاج إلى زيادة وتكملة، شأن المُعرف للذكر والنكرة للأنثى، فقط لأن آدم خلق قبل حواء وفي جزء زائد منه.

فالمرأة في نظر النحاة ومجموع المشتغلين بقواعد اللسان العربي، “ضعيفة بالطبيعة لا بالاكتساب، فهي كذلك وتبقى إلى الأبد، ومن هذا الضعف استمدت صفاتها تلك، فهي أنثى لأن “الأنيث” في اللغة هو الضعيف والسهل والمنبسط وغير القاطع (فالمرأة سميت أنثى بالضرورة من البلد الأنيث…في حين يدل المذكر بالضرورة على القوة والتفوق قبل أن يدل على الذّكر من ناحية النوع”. وكأن الأمر في ثنائية الذكورة والأنوثة وامتداداتها  اللغوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية  وحتى الشرعية  والقانونية، إنما تعني التقابل بين القوة والضعف، وبين النكرة والمعرفة والنقص والزيادة،  وبين التابع والمتبوع،  وبين السلب والإيجاب، وبين الفوق والتحت، وبين الفاعل والمنفعل، وبين الأصل والفرع، بين المُنفقُ والمنفَق عليه. كل ذلك ينتقل إلى الرؤية الذكورية التي تصوع بنود مدونة لأسرة، وتدبج مقدماتها، وتفصل في قوانينها، وأحيانا كثيرة تكون للأنثى، إن استشيرت أو شاركت في الصياغة، عيون مذكرة بالطبيعة والاكتساب.

فلا معنى للرجل في الثقافة العربية المُسلمة، وضمنها المغربية، وفي القيم المتداولة بين الناس، إلا إذا كان “قويا”و”شجاعا” و”نبيلا”و”شهما” و”ثابتا” و”قادرا” في الرأي والشهادة والموقف والقوامة… وخلاف ذلك سيكون معنى المرأة، مقرونا بالضعف والرقة والليونة والهشاشة والمكر…  بذلك يكون الرجل قد أعار للكون صورته لكي يُصبح مذكرا في كل شيء؛ ذلك أن النموذج في السلوك والمهنة والموقف والممارسة، هو ما أطلق عليه بنكراد،النموذج الرجالي، بما فيها التسميات التي لا حظ فيها للمرأة إلا ما يمكن أن تقوله التاء المضافة عندها.

ومن أشد مظاهر الظلم على المرأة، وبالتالي على المؤنث، وتجلياته في مؤسسات الدولة والمجتمع والقانون، وغيرها، أن يكون اللّعب ذاته “رجالي”، وبالتالي ذكوري، ويكون “مؤنث” فيه عارضٌ ومُلحق. ذلك ما يستخلصه سعيد بنكراد قائلا، وهو يتحدث عن كرة القدم، بين الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي، وبما يُظهر الظلم ويجسده: “فاللعب “رجالي” وتدخُّلات اللاعبين “رجولية”، والواقف أمام المرمى “أسد”، ويتكون الجمهور في أغلبيته الساحقة من الرجال، والكرة وحدها “مؤنثة”. لذلك يداعبها الرجال، ويجرون وراءها، ويتسابقون لوضعها على صدورهم أو بين أرجلهم. وعندما يتهاون اللاعبون في اللعب ويهزمون ينعتون بــــ” الفتيات”، أي بالضعف والهون والرقة والأنوثة وقلة الفحولة. بل قد يصل الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك. فالكرة  رجالية أي كونية، لذلك تخصص اللعبة وتسمى “كرة القدم النسائية”(لا يقال “كرة القدم الرجالية”، ويقال كرة القدم النسائية”)، وهذه الكرة ليست سوى محاكاة ساخرة للأولى، فاللاعبات بارعات بقدر قدرتهن على الاقتراب من النموذج الرجالي في اللعب”، ومحاكاته، وليست المحاكاة كالأصل المحاكى، وبالتالي ليس الرجل كالمرأة.

ذلك ما تعكسه اللغة الفرنسية كذلك، رغم انتصار أهلها للمرأة ومساواتها للرجل. فالتذكير فيها كما في العربية، غير التأنيث، وكلما أسندت صفات معينة إلى أحدهما يتغير مضمونها حسب إسنادها إلى المرأة أو الرجل.ذاك ما يصدقعلى كلمة (Professionnel  ) في اللغة الفرنسية مثلا. فإذا هي أُسندت إلى الرجل/ المذكر كانت دالة على إتقان لمهنة أو حرفة أو للُعبة ما، أما إذا أُسندت إلى المرأة/المؤنث، فإنها لن تكون سوى للدلالة على العهارة والانحلال وما يرتبط بها من قيم حاطة بها. وبذلك تكون اللغة، وهي من خلق المذكر، قد انحازت لخالقها، لا بحكم القواعد فحسب، بل استنادا إلى أحكام اجتماعية سربها المذكر إلى كل مناحي الحياة.  وقل الشيء نفسه في قيمة الحرية، فأن يكون الرجل حرا، معناه أن يكون “فحلا” و “مناضلا” و”تقدميا” و”حداثيا” و”منطلقا”، بكلمة واحدة أن يتمتع بالحرية كقيمة حقوقية. فأن تكون المرأة حرة، يفيد أنها “مُنحلة” و”عاهرة”، ومخترقة للحدود (ياغيلو، ص120). ذلك ما يلتصق بالنساء المناضلات في الأحزاب السياسية أو مناضلات المجتمع المدني، وما يُتهمن به في كل دعوة إلى إصلاح مدونة الأسرة، أو المطالبة بمساواة الجنسين، على قاعدة وَحْدة النّفس والكفاءة. وواقعة تأنيث مهنة العدل والعدول في المغرب دالة في هذا الباب. فأن تكون عدلا مذكرا (من العدول كمهنة) فأمر مقبول ومستساغ بل ومستحب وواجب، ولا يخرق قاعدة ولا عقيدة، لكن أن تكون المرأة  عدلة أو عدولة، فأمر “شاذ” لا يستقيم، ولا تقبله العين الذكورية ولا تستبيحه، فتحسبه خرقا لسنة الله التي لن تجد لها تبديلا. ورغم تبدل الواقع، وتطور المجتمع، وتعلم المرأة، ودخول المؤنث إلى أعلى مؤسسات المجتمع والدولة فاتحة ومنتصرة وفعّالة، فما تزال في اللغة والثقافة الذكورية المهيمنة مجرد “وْليّة” ناقصة “عقل ودين” ومروءة وكفاءة. الأمر الذي يزيد من تعقيد المطالبة بإنصاف المرأة ومساواتها مع الرجل، والمرافعة لصالحها في المدونة وغيرها. فما يزال “النموذج الرجالي” قائما يرسم الحدود، ويضع القوانين، خاصة إذا أطرها بمسحة دينية، وحُجج متعالية.

هكذا، ستظل المرأة دون الرجل، مهما حصل، حتى وإن برعت في كل المهن والألعاب، ولها عالي الكفاءات والمهارات، وتصدرت المواقع ونجحت، فستظل دونه درجات، “تلهث” لتقترب من “النموذج الرجالي” دون أن تبلغه. فالمرأة  تقود السيارة كما يقودها الرجل، وتلبس كما يلبس، وتدير المؤسسات كما يديرها، وتستوزر كما يستوزر، وتنجح كما ينجح، وترتقي كما يرتقي… ومع ذلك، فالعالم بمؤسساته وكائناته وأشيائه وتمثلاته الرمزية من ألوان وخطوط وأشكال وأحجام في مِلكية الرّجل، و قد “حفّظه” بلغة ذكورية وبقواعدها يديره  ويدبره ويتصرف فيه، كما يشاء، يعضده في ذلك اسم الجلالة وذكوريته. لم يسلم اسم الله كذلك في اللغة العربية من “النموذج الذكوري”، وصنوه الرّجالي، إذ كيف للذي ليس كمثله شيء أن يُذكّر، كما يُذكّر الرجل، بقوة اللغة وحدها، وتُذكّر أسماؤه الحُسنى؟؟؟

إن الله الذي  جلّ  جلاله و إن” لَمْيَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ”مذكر بضرورة اللغة وحدها، لا بجوهر الوجود والكينونة. فهو ليس كمثله شيء، أي مصنف خارج حدود تركيبة بيولوجية مرئية في كائنات الأرض وحدها. وحتى أسماء الله الحسنى التي يُعرف بها  تعالى، مذكرة بقوة اللغة وذكوريتها. وعليه، فإن “تذكير الله، أي منحه صفات المذكر، يجعل الرجل أقوى منزلة من المرأة استنادا إلى أحكام لا يقبلها الله نفسه: “فالذي ليس كمثله شيء ” لا يمكن أن يكون صورة للمذكر، لأن عدم تشابهه مع أي شيء في الوجود ينفي عنه الذكورة والأنوثة في الوقت ذاته”.(ص201 من الوهج). وهو ما ينتعش فيما يتعلق بأي دعوة للمساواة بين الجنسين، وأي مطلب لإصلاح مدونة الأسرة، فينتصر الناس للمنطق الذكوري الذي  رسخته اللغة وسربته عبر أحكامها وتصنيفاتها وتسميتها للأشياء والكائنات، وتساوي، واعية بذلك أو غير واعية، بين الله والمذكر. وعليه فأي مطلب للمساواة بين الجنسين إلا ويمر عبر ثنائية الذكورة والأنوثة، وتحكمه ذكورية اللغة ونظامها وقواعد نحوها وقواميسها، في غياب تام للمرأة تصير معه مجرد تابع أو هامش أو ملحق أو مكمل للرجل/ الذكر.

لقد تسرب ظلم المرأة واضطهادها، وامتدتالتمييـزات الحاطة من قيمتها ومكانتها المرجوة إلى قاموس اللغة العربية ومعاجمها بمداخلها الرئيسة وإيحاءاتها وتداعياتها وأمثلتها التي تستوعب كائنات الكون وأشيائه وفق الفصل بين المذكر والمؤنث. “فمَن تأنّث تأنيثا فقد لان”، ومن كان “أنيثا كان مخنثا شبيها بالمرأة”، ذلك أن الأصل في “الأرض الأنيثة والمئناثة هي أنها سهلة ولينة”. ومن ذلك “أن البلد الأنيث هو اللين المطواع”، و”قد سميت المرأة أنثى من البلد الأنيث، فهي ألين من الرجل” (لسان العرب). وعلى المنوال نفسه أصبح “السيف أنيثا أي غير قاطع”. فتلك من إكراهات القاموس العربي، وهو يختزن كل الأحكام والتمثلات الرمزية والتصنيفات الاجتماعية. فالتذكير، هو على نقيض الأنثى في اللغة لا في حقيقة الوجود.فاليوم يكون “مذكرا، إذا كان صعبا شديدا”، و”يكون الرجل ذكرا إذا كان قويا شجاعا أبيا” لا يهاب أي شيء (لسان العرب). و”الرجيل من الرجال هو القوي” و”المرأة الرجيلة هي الصبور”، وهي بذلك شبيهة “بالناقة الرجيلة القوية على المشي” و” في الحديث كانت عائشة رجُلة الرأي”، “أي رأيها رأي الرجال، فالتشبه بالرأي والعلم غير مذموم” (لسان العرب).

أما التأنيث فلا وجود لرابط صريح بين الأصل الثلاثي لكلمة “مرأ” في لسان العرب، وبين المرأة وعوالمها. فلا تدل كلمة “امرأة ” إلا على ما يحدد الجنس وحده. فهذا الجذر يتمحور أساسا حول الإطعام والأكل وأعضاء في المعدة( المريء)، ولا تشير المروءة فيه إلى أي شيء في المرأة عدا أنها “سلوك لين”. فالمرأة “ترتد إلى فعل “مرأ” أي طعم، وهذا تلازم الطعم بالطعام. “والمرأة هي حرم، والحرم المنع، ويقال حرمة الرجل أي حرمه”، أي تابعة له، ولا سلطة لها على نفسها وامتداداتها. ربما ذلك ما دعا مارينا ياغيلو في آخر كتابها، الكلمات والنساء، إلى طرح سؤال إنكاري واستفزازي قائلة:  هل يجب حرق القواميس؟ فهي تُسلم، كما سلّم اللغويون وصناع القواميس أن  القاموس، أي قاموس- بما فيه آخر قاموس للغة العربية الذي أعدته قطر، تحت اسم  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية- هو صناعة إيديولوجية وثقافية ما تزال ذكورية، وبتوجّه محافظ ورسم لحدود بارزة تضع الحد  الفاصل بين المقبول والممنوع، وبين  السوقي والعالِم، وبين المباح والمستحب، وبين  القوي والضعيف، والفاعل والمفعول فيه، وبين الأصل والفرع…

فالقاموس ذاكرة أمة، ولكن متحركة بمسايرة تطور اللغة وكلماتها في مستواها التقريري، ورصد تحولات الفكر والمجتمع وتطوره. فهو حارس اللغة  ورقيب عليها، يحميها من الضياع والنسيان والتّلف، وعبث العابثين، ويُمكّن متكلميها من معرفة تاريخهم وثقافتهم ودرجة حضارتهم، وأشكال حضورهم في العالم. فهو انتقائي بامتياز، لا تدخله من الكلمات إلا من لها شرعية ذلك، وهو سلطة تحمي مؤسسة المجتمع والدولة، وتعلم الناس كيف ينتمون إلى محيطهم اللغوي والثقافي والمجتمعي فالحضاري. والأخطر من ذلك، أن القاموس هو مستودع القيم والأحكام والرؤى في الأخلاق والسياسة والفكر وغيرها. استنادا إلى ذلك، فنحن لا نفهم المذكر من المؤنث في المعاجم العربية، إلا من خلال تحديدهما لموقع الرجل والمرأة في الذاكرة الثقافية والاجتماعية للناطقين بتلك اللغة. فالقاموس لا يكتفي في مدخل كلمة “ذكر” أو كلمة “أنثى”، بتقديم معلومات حولهما بشكل محايد وموضوعي وبارد، يفصل بين الجنسين، بل يُصدر أحكاما، ويُقيّم المواقع والمكانات. فـــ”الذكر”، من مادة “ذكر”، مرادف للقوة والشدة والغلبة والشجاعة والقوامة والفحولة، فيما  يكون “المؤنث” من مادة “أنث”، ملازم للضعف واللين والخنوع والطاعة. فالكلمات في القاموس ملازمة للثقافة وعاكسة لتجربة متكلميها في سياقات لغوية وثقافية وحضارية مخصوصة. واستئناسا بذلك، فإن مراجعة مدونة الأسرة بعقلية ذكورية، تبسط جناحيها على اللغة والثقافة والنحو والقاموس،وهو ما سيجد صداه بالتأكيد في التشريع والقانون، لذلك لا بد من استحضار كون المرجعيات المختلفة، ستكون مُوجهة بقدر أو آخر لمآل مدونة الأسرة المرتقبة… فوجب التذكير والتنبيه… !!!

عن :

https://alittihad.info/%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%ba%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9%d8%8c-%d9%88%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%83%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a3/

‫شاهد أيضًا‬

بلاغ المرصد الوطني لمنظومة التربية و التكوين عن لقاء مع ممثلين لتنسيقية خريجي المدارس العليا للاساتذة وكلية علوم التربية

استناداً إلى أدواره المدنية و مهامه التي يضمنها الدستور المغربي و استجابةً لطلب التنسيقية …