الثقافة الشموليّة, نمط ثقافي مغلق في الغالب على نسق محدد من المعارف, تحدد طبيعته وأهدافه سلطة سياسيّة في دولة شموليّة, أو قوى اقتصاديّة أو اجتماعيّة وفقاً لقيم معياريّة وخرائط مسبقة الصنع تفرضها هذه القوى المسيطرة على سياسة الدولة والمجتمع وفق أيديولوجيا شعاريّه وبراغماتيّة وحتى أسطوريّة ذات طابع ديني غيبي غالباً, بغية التأثير على عقول وسلوك وقيم أفراد المجتمع وتحركيهم كأحجار شطرنج, أو نمذجتهم وضبط آليّة تفكيرهم وسلوكياتهم وفق ما تريد هذه القوى المسيطرة أو الحاكمة. وما يميز هذه الثقافة الشموليّة أنها لا تُدخل في حسابات المشتغلين عليها أي مشروع إبداعي يساهم في نهضة الفرد والمجتمع, وتعميق حالة الانتماء والهويّة والمواطنة واحترام الرأي والرأي الآخر لديه, أو تنمية فهم الفرد لمسألة الدولة والدستور والقانون والمؤسسات وكيفيّة الوصول إلى السلطة وضرورة تداولها, ولا حتى تعميق البعد الأخلاقي والفلسفي والجمالي لديه, إلا بما تراه وتريده القوى بسلطاتها الشموليّة وفقاً لمصالحها الأنانيّة الضيقة واستمرارها في السلطة. أو بتعبير آخر هي ثقافة تشتغل عليها القوى الحاكمة المهيمنة على السلطة, بعد تحويلها إلى سلطة شموليّة/ كليانيّة, مستخدمة كل وسائل الدولة المتاحة الماديّة والمعنويّة, وفي مقدمتها المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة والدينيّة والتربوية, وأخيراً حتى القوى العسكريّة إذا اقتضت الحاجة, من أجل تهجين المجتمع وتدجينه وتوجيهه باتجاه أهداف ذات طبيعة شعاريّه لا عقلانيّة, تحت مسميات وطنيّة وقوميّة ودينيّة وإنسانيّة.. الخ, وكل ذلك كما قلنا أعلاه, للحفاظ على وجود هذه السلطة الشموليّة الاستبداديّة واستمراريتها أولاً, وغالباً ما تكون مرجعياتها تقليديّة, كالعشائريّة أو القبليّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة, ثم الحفاظ على مصالحها الماديّة والمعنويّة, ومصالح أفرادها, أو أحزبها, أو قبيلتها أو عشيرتها أو طائفتها. دون مراعاة حقيقة لمصالح المجتمع وتنميته بكل مكوناته ثانياً.

       أما في مواجهة هذا الثقافة الشموليّة, فنجد ثقافة تنويريّة مقصاه من الواقع بفعل قسري, يمثلها مثقفون تنويريون, مأساتهم أنهم محط إقصاء وتهميش أيضاً في هذه الدولة الشموليّة, بل هم دائماً محط كره وحقد من أعداء الحقيقة والحريّة والإنسانيّة, وخاصة من قبل الانتهازيين والوصوليين والسفلة من رجال السياسة والسلطة ومثقفيها في الدولة الشموليّة, كونهم يجدون في المثقف التنويري النقيض لهم فكراً وسلوكاً, لأنهم يعرفون بأن ما يمثلونه هم من قيم أخلاقيّة وسياسيّة وثقافيّة, هي قيم منحطة, ورخيصة تسوق لمن هم في السلطة, أو أولياء نعمهم.

     إن هذا الموقف العدائي من قبل ممثلي الدولة الشموليّة ضد المثقفين التنويريين المدافعين عن قضايا الناس وحقوقها وحرياتها مصالحهم, لا ينطبق أو حتى يتنافى مع فهم الدين الذي يتاجرون به, وتغييب البعد التنويري في نصه المقدس, كما جاء في الآية التالية: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). (179 الأعراف).

     نعم إن الناس الذين لا يستخدمون عقولهم في تحليل وتركيب الظواهر الاجتماعيّة التي يعيشون فصولها يوميّاً, ولا يستخدمون بصرهم في مشاهدة الحقيقة التي  تجري أمامهم, ولا سمعهم فيما يشتكي الناس من مظالم وفساد, سيتحولون إلى أنعام في الحقيقة, وهذا ما يشتغل عليه رجال السلطة الحاكمة في الدولة الشموليّة والقوى الموالية لهم أكثر من غيرهم ضد شعوبهم. هؤلاء الذين يتاجرون بالدين والسياسة والوطن والمواطن وكل القيم النبيلة التي ترفع من قيمة الإنسان ووعيه وانتمائه لوطنه ومجتمعه في الظاهر. بينما هم من يقوم بممارسة فعل التجهيل وفلترة الثقافة وفق ما يخدم مصالحهم بغية تحويل الجماهير إلى أنعام.

     إن الثقافة الشموليّة التي يغلب عليها طابع الشكلانيّة والسطحيّة, تسوقها السلطات الشموليّة من خلال مؤسسات تدعي بأنها تعمل من أجل تطوير المجتمع بشكل عام وجيل الشباب منهم بشكل خاص, حيث تتجه النشاطات الثقافيّة والإعلاميّة هنا إلى تجسيد قيم وطنيّة وقوميّة بأساليب شعاريّة كرسم علم أو طيارة أو جندي يقاتل, أو مسؤول يقوم بزرع شجرة, أو افتتاح مشاريع صغيرة تظل في نتائجها لا تستحق ثمن الجهد والمال الذي يُبذل من أجل إقامتها أو افتتاحها… أو إبراز أدوار كاذبة لهذا المسؤول او ذاك… أو إقامة احتفالات ومهرجانات في مناسبات وطنيّة أفرغها الزمن والممارسات الخاطئة للقوى الحاكمة نفسها من مضمونها..  وغير ذلك.  

     في مقابل هذه الثقافة التجهيليّة التسويقيّة المفلترة التي تمارسها السلطة في الدولة الشموليّة وأدواتها من كتاب وفنانين وأدباء وتربويين على الجماهير, تأتي الثقافة التنويريّة كما قلنا كفعل جماهيري.. كنسق فكري عقلاني نقدي, يشتغل على تفكيك الظواهر المتخلفة وإعادة بنائها بما يخدم نمو الإنسان وتطوره, وفي أعلى درجات هذه الثقافة التنويريّة تأتي مهامها أو وظائفها بعد اكتمال بنيتها وتبلور حواملها الاجتماعيّة, لتطرح التساؤلات الكبرى عن حياة أبناء الدولة والمجتمع ومستقبلهم وعوامل تخلفهم ونهضتهم, أي الكشف عن الكثير من المسائل الملحة المتعلقة بحياة الإنسان الماديّة والروحيّة بكل مستوياتهما. وبناءً على ذلك لم تعد (الثقافة) وفق هذا التحديد فعلاً نخبويّاً فحسب, بالرغم من ارتباطها بالنخب منذ أن ظهر التقسيم الاجتماعي الكبير للعمل على ساحة الوجود الاجتماعي بين العمل الفكري والعمل العضلي, وإنما تصبح فعلاً شعبيّاً أو جماهيريّاً يمارسها الفرد والمجتمع معا في حياتهما اليوميّة المباشرة, وغالباً ما يعملان على اختزالها وتكثيفها في حكم وأمثال شعبيّة ومقولات فقهيّة وفلسفية ورؤى أيديولوجية تنويريّة, تفرض نفسها على سلوك الفرد والمجتمع في حياتهما اليوميّة المباشرة.

د. عدنان عويد كاتب وباحث من سورية                                

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …