إشكاليات الصدام والحوار والسلطة الهوية و الدين

 

عن الموقع الالكتروني ” حكمة”

وذلك في خصوص ماهية النظر إلى المسألة الدينية السياسية. وأولها يحصر نموذج الدولة الإسلامية في أشكالها التاريخية، أي دولة الخلافة والدولة السلطانية بالاستناد إلى المرجعية الفقهية الوسيطة.

وثانيها يسعى إلى أسلمة الدولة الوطنية الحديثة، من خلال إضفاء الشرعية الدينية على هياكلها المؤسسية البيروقراطية، مع تصويب منظومتها القيمية التشريعية. وثالثها يتبنى الدولة الحديثة ونمط العقلنة السياسية، التي تنهض عليها، من منطلق تصورها الإجرائي الأداتي الذي لا يتناقض جوهرياً مع المرجعية الإسلامية، بل يقبل شتى المقاربات القيمية. ويرى ولد أباه أن الفرق كبير وشاسع بين هذه الاتجاهات الثلاثة.

وكذلك لا ينحصر فقط في تصورها للهوية وللدولة وعلاقتها بالشريعة، بل يمتد إلى مسائل عديدة، ولكنه ييشير إلى أن محاولة أسلمة الدولة الوطنية من دون دراية تستبطن الوظائف العمومية للدين، خطأ وقعت فيه أغلب اتجاهات الفكر الإسلامي. ويلاحظ المؤلف أن الإسلاميين بشكل عام يتفقون مع أعتى خصوم الإسلام من الغربيين، في اعتبار الإسلام الدين الوحيد الذي لا يقبل الفصل بين الدين والدولة، وبالتالي فهو يتمنع على العلمانية، والتي هي المسلك الذي اعتمدته المجتمعات الديمقراطية الغربية الحديثة لحسم المسألة الدينية- السياسية.

ويجد السيد ولد أباه أن المؤسستين، الدينية والسياسية، لم تندمجا في الإسلام خلال مجمل مراحل الدولة الإسلامية في مختلف عهودها التاريخية، بل حافظت كل واحدة منهما على استقلاليتهما ضمن حدود صلاحياتها الضمنية الدقيقة التي بقيت محصورة في الإفتاء والتأويل للفقهاء، إلى جانب تسيير شؤون الدولة والحكم للخلفاء والسلاطين. ويشير المؤلف، إلى انه قدم رضوان السيد، في هذا الصدد، دراسات مهمة في الفكر السياسي الإسلامي الوسيط، واعتبر أن التصادم بين المؤسستين كان يحدث في لحظات الأزمة، أي عندما تضعف إحداهما فتطمع في احتواء مهمات الأخرى.

ولكن الأمر ينتهي إلى وضعه الطبيعي في نهاية المطاف. ويبيّن المؤلف أنه لم تظهر في الفكر الإسلامي المعاصر أطروحات، تتبنى صراحة حكم العلماء والفقهاء قبل نظرية ولاية الفقيه التي أخرجها الإمام الخميني من أدراج التراث الشيعي لحل معضلة الشرعية الدينية للدولة في عصر الغيبة، أي غيبة الإمام المهدي المنتظر.

وذلك بعد أن سيطرت على الفكر الإيراني مسائل تتصل بعلاقة الدولة الدينية مع الدولة المدنية. وأيضا: مصدر مشروعية السلطة، تاريخية المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، تحليل اللغة الدينية. ويبين ولد ابه هنا، أن هذا الأمر يشير إلى أن أكثر الخطابات تحديثاً في إيران، غالباً ما يتبلور ضمن السياق الديني، وهذا بينما أن الصورة مغايرة في الفكر العربي، إذ غالباً ما كانت الاتجاهات التحديثية في الساحة العربية تتشكل خارج الهم الديني وسياقه الفكري.

ويخلص المؤلف الى حقيقة مهمة بهذا الشأن، يؤكد معها أن الفقه السياسي، السني والشيعي، انتهى لدى الاثنين، وعلى الرغم من اختلاف مرجعيتيهما، إلى النتيجة التي تقول بالفصل بين النظام الشرعي والسلطة السياسية. وعليه اتسمت كتابات الحكام السلطانية والسياسة الشرعية بالبراغماتية والواقعية الشديدة، وخلصت إلى اعتبار السياسة من شأن الغلبة والقوة، وانتهت إلى حصر شرعية الحكم في صون وحراسة الدين بوصفه مقوم الهوية الجماعية.

وأما عن علاقة الدين بالدولة في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فيرى المؤلف أنها تتخذ مسلكين مرتبطين بشكل عضوي، أولهما يتمثل في اضطلاع الدولة الوطنية الحديثة ببعض الأدوار التاريخية للدين، خصوصاً ما يتصل منها بالأبعاد الرمزية المشتركة، أي دائرة المقدس الجماعي، الذي تحول منذ العصور الحديثة من المؤسسة الدينية التي كانت تؤطر النسق الاجتماعي، إلى الدولة التي أصبحت تؤدي الدور ذاته. وثانيهما ينحصر في اضطلاع الايديولوجيات بدور الدين العقيدي والطقوسي، وذلك في سعيها الى منافسة الديانات في معتقداتها التأويلية التفسيرية، وفي ضبطها وعي الناس ومخيلتهم.

ويلفت ولد اباه إلى حقيقة جوهرية في هذا المجال، مؤداها أن الدولة الوطنية في بلداننا العربية، والتي حاولت تعويض الدين الإدماجي الاجتماعي، أضحت نموذجاً متآكلاً عاجزاً عن أداء هذا الدور في سياق معادلة العولمة الجديدة.

إضافة إلى أن الايديولوجيات التعبوية، الغائية والنسقية انهارت، وكذا فقدت نجاعتها التصورية والإجرائية، الأمر الذي أفسح المجال امام عودة الديانات نحو استرجاع هذا الدور الذي كانت تحتكره سابقاً. وينتهي المؤلف إلى خلاصات ركيزية في أبحاثه، يرى معها أن واقع المجتمعات العربية والإسلامية يبيّن أن تناول المسألة الدينية موضوعياً، يقتضي تقديم قراءة تحليلية وأركولوجية للظاهرة، بغية التعرّف على أسبابها ومفاعيلها وأدوارها في الحراك السياسي والاجتماعي في عصرنا الراهن، وذلك لأنها مسألة شديدة التعقيد.

وبالتالي، يمكن القول بأننا لا نشهد عودة الدين إلى الساحة العالمية بقدر ما نشهد استخدام الدين من طرف جماعات مختلفة لأغراض سياسية واقتصادية، لا علاقة لها بالدين وأركانه. وإذا نظرنا إلى مسألة الهوية بوصفها ظاهرة اجتماعية مبنية على الاختلاف مع هوية أخرى، يمكن القول بأنها ليست جامدة أو متصلبة، بل تتطور وتتبدل تبعاً للمتغيرات والظروف، التي تعصف بمنظومات القوة والسلطة ومعايير الزمن الحاضر. لكن ليس دقيقاً القول بأن الهوية الدينية تحكم في أيامنا هذه، كل شيء وفي كل مكان من العالم.

الكتاب: الهوية والدين .. إشكاليات الصدام والحوار والسلطة

تأليف: السيد ولد أباه

الناشر: دار جداول- بيروت: 2011

الصفحات: 144 صفحة

القطع: الكبير

‫شاهد أيضًا‬

الصراع المذهبي، وليس الدين، وراء “تهافت الفلاسفة”- الضربة القاضية الكاذبة * محمد عابد الجابري

(*) منقول عن موقع فكر ونقد 1- ضرورة التحرر من “الصواب الموروث” كتاب “تهت…