أن تعنون الكاتبة قصتها بكلمة واحدة وهي بالضبط “الندم”، وتستهلها بالحديث عن “مدينة قديمة”، يثير لدى القارئ سؤالا عريضا معقدا للغاية، يصعب عليه أن يجد له جوابا شافيا. الزوار في رواح وغدو بآلاف الخطوات في الأزقة الحجرية الداكنة يعبرون عن عشق ذاكرة لا يلتئم. في زمن ناطحات السحاب والتكنولوجيات الحديثة والأسلحة الإلكترونية الدقيقة ووسائل النقل السريعة بذكائها الاصطناعي، لا يجد العربي سبيلا للتعبير عن هويته إلا البحث عن اكتشاف التراث والاعتزاز والتباهي به، بل الاستعداد من أجل التضحية من أجله، وترديد ميوله للرجوع إلى الوراء المرادف للهلاك. الزائرون لا ينتبهون لفقر الأجزاء الأخرى من المدينة وهشاشتها. العودة كل عام للأمكنة المقدسة في اللاشعور المتنامي تاريخيا، كما عبر عن ذلك السارد، هي بمثابة إرادة نفسية لمسح الوجوه المتعبة الزرقاء بنور هو في حقيقة الأمر قد تشظى في القلوب. النور لا يتشظى في طبيعته. وما حققته الشعوب المتقدمة يتجبر بسلمية قاهرة فارضا نوره على النفوس متحديا كل أشكال المقاومة. تَصَوُّرُ تشظي النور لا يرقى أن يكون سوى انعكاس لعقدة نفسية تاريخية تستدعي التأمل وحل رموز المنطق السائد والاستعداد للمستقبل.

بعد مسار في المدينة القديمة بجدرانها العتيقة، يقف السارد البطل أمام الواجهة الزجاجية. لا محالة إنها واجهة مغرية بملذات الحياة. تأثر بالقديم وأصابته التخمة (تناول وجبة ثقيلة: إفطار دسم). تَعَمَّد التعبير عن عدم الندم، وَوَلَّد الرغبة في تناول المزيد منها. لقد قابل شراهته بحزنه وهو يعي كامل الوعي أنه ساخط على انتمائه لوطن خذله أبناؤه (هذا عقابي وأستحقه).

لم يكن بمقدوره مقاومة إغراء الجديد المعروض على الواجهة الزجاجية التي ترمز للحداثة ونمط الإنتاج الغربي. تلقف الصحن البلاستيكي، نظر بشراهة لقطعة العجين المقلية والمحشوة بالشوكولاته السائلة، وبدأ بالتهام ما قدّم له بأنفاس متقطعة لزجة. سمع أحدهم يهمس من خلف ظهره متفوها بعبارتين مدويتين “شره قميء” و”بدين أحمق”. ازدرد السارد بفطرته من ثقافة انتمائه حتى تجاوز حد الإشباع لكن نفسيته لم تثنه عن التهام المزيد من المعروض في الواجهة الزجاجية.

بمنطق الاستدلال السخيف (raisonnement par l’absurde)، يلاحظ السارد نفس الميول النفسي لدى السياح الأجانب. وصفهم بشخوص بلا أرواح ولا أفئدة، يتلذذون بقلب المدينة التي أعفنتها الحرب من مرارة الاحتراق ولم تعفنها من مرارة الموت والدمار والجوع. بإيحائه هذا، يقر السارد باستفحال تخبط عالمي، فاتحا آفاق التفكير للغوص في آفاق معرفية قد ترسو على مرافئ نمط حياة جديد.

هم يستهلكون بمنطق السائح الباحث عن كشف الماضي العربي (المشرق العربي، المنطقة المغاربية والأندلسية)، والسارد يستهلك بمنطق العربي الحائر المثقل بالماضي بدون أن يجد السبيل الصحيح لفرض الذات في المستقبل. الندم جعل السارد يعاتب نفسه بدون قدرة على تعبيد طريق تقوده للبدء في منافسة الآخر. السارد نموذج الشخصية العربية الواعية بواقعها، لكنها في نفس الوقت تعترف بعدم قدرتها التملص من مخالب الزمن المضني بتقنياته وسلوكياته وتغييراته الاجتماعية السريعة. انعدمت الطمأنينة بسبب إدمان الشراهة في كل شيء، بدون أن تتاح الفرصة للعربي أن يفكر في الرجوع بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام. لقد اختزل السارد هذا الواقع المفروض نفسيا بعبارة “فليذهبوا إلى ذلك الجحيم”.

وحتى وهو متخم بما طلبه وتناوله من الواجهة الزجاجية، أخذ يحملق فيما تبقى (نصف قطعة الحلوى ملتصقاً بالصحن البلاستيكي في يده). ميزة الحلوى هي إثارة الشهية (رائحة الفانيلا وخبيز الحلوى تثيران فيّ الغثيان). لم يتجرأ على رمي الجزء المتبقى في الحاوية بالرغم من شعوره بالإشباع والتخمة. لام نفسه لعدم قدرته التحكم في نفسيته ولذاته (الندم). ابتلعُ كلّ شيء بشراهةٍ. نظر إليه الصحن الفارغ الدبق بفتاته ضاحكًا ومستهزئا وهو لا يغادر كفه المتعرق. استند بيده على الجدار ريثما تصل سيارة مستأجرة فارهة لتقلّه لأهم فنادق المدينة المكلومة.  حثت خلفه خطوات ضيقة، شدته يدٌ بائسة صغيرة، إلتف للخلف، آتاه صوتها مغلفًا بآذان حزين بعيد بعبارة “هل ستأكل هذه يا عم؟”. قدم لها الصحن بفتاته، مسكته ببؤس وغادرت….حملق فيها ورق قلبه لها. إن جسدها ناحل وثوبها متسخ قديم، مرتحلًا مع جوقة من الأطفال المشردين الباحثين في حاويات القمامة البعيدة عن ندم يشبه ندمه.

استهلك الفاعل العربي من صحون ثقافته حتى أصيب بالتخمة والتيه. حملق في وجبات الواجهات الزجاجية العصرية، وتعسف على نفسه لاستهلاك المزيد بشراهة. وحتى وهو تائه مشبع مصاب بالبطنة، التهم ما تبقى في الصحون المقدمة له من الواجهات الزجاجية العصرية. لقد سمح لنفسه إراديا بتقديم فتات الصحون الفارغة إلى الأجيال الصاعدة الجائعة المشردة. لم يترك لها ولو قطعة طعام تستجيب لشغفهم للشعور باللذة دون إشباع. ترك لهم فتاتا لا منفعة من وراءه.

قصة حزينة للغاية، كلماتها مرتبة بعناية قصوى. بعباراتها يزداد التركيز شدة من أول كلمة إلى آخرها. لغة سلسة مشجعة على القراءة والتأمل. عتبة العنوان غير الفاضح تكاد أن تجعل من “الندم” شعورا لا يثنى عن تكرار المآسي. ندم بدون ثوبة كما في الدين الاسلامي. ندم اعتقله الانحراف وهزم النفوس فارضا آفة الاستهلاك المتكرر. يزدرد الفاعل ما لذ وطاب من ثقافته، وتزداد شراهته أمام ما تقدمه الواجهات الزجاجية. يزدرد كل شيء بشراهة بعيدا عن العقلانية، وتبقى الأجيال الصاعدة عرضة للمجهول. العبرة في القصة تدعو بشكل مبطن إلى قهر النفس وإحداث توقف زمني لمراجعة مقومات الأنا، ومن تم التفكير في نسق يمكن من الاعتزاز بالهوية العقلانية (غربلة التراث)، والغوص بدون تردد في اعتناق الكشوفات العلمية المحققة والبحث للوصول إلى أخرى جديدة ترمز إلى عبقرية الإنسان العربي. إنها خلاصة بمثابة وصية جيل لجيل.

نص القصة:

الندم

في الأزقة الحجرية الداكنة، ُتبتلعُ آلاف الخطوات.

وحدها الظلالُ والجّدران تتنفس وقعَها المتفاوت في رّواح وغدو، ككلِّ مدينة قديمة في العالم، لجانبها الأثري نصيب من العشق لا يلتئم، ولا يعرف فقر الأجزاء الأخرى وهشاشتها. إنّه ذلك الوقت الرّصين من كل عام… قدسية تمسح الوجوه المتعبة الزرقاء بنور قد تشظى في قلوبهم ولم يلامسني حفيفه.

فليذهبوا إلى ذلك الجحيم..

أقف عند تلك الواجهة الزجاجية مثقلاً بوجبة ما كان يجب عليّ تناولها بعد إفطار دسم، ورغم ذلك أنا أرغب في المزيد منها.

لا يعلم أحد حولي، أنّ حزني أكبر من شرهي، وأنّ سخطي أقسى من انتمائي لوطن خذلناه جميعًا.

وها أنا أتلقف الصحن البلاستيكي، أنظر بشراهة لقطعة العجين المقلية والمحشوة بالشوكولاته السائلة، وأبدأ بالتهام ما قدّم لي بأنفاس متقطعة لزجة، أسمع أحدهم يهمس من خلف ظهري

شره قميء

بدين أحمق

، لكن ذلك لا يثني عزيمتي عن التهام المزيد.

كثر هم سياح المكان الَمحملقين فيّ، سياح يشبهونني، شخوص هائمة بلا أرواح ولا أفئدة، يتلذذون بقلب المدينة التي أعفتها الحرب من مرارة الإحتراق، ولم تعفها من مرارة الموت والدمار والجوع، بقي نصف قطعة الحلوى ملتصقاً بالصحن البلاستيكي في يدي، رائحة الفانيلا وخبيز الحلوى تثيران فيّ الغثيان. أقف بجانب حاوية القمامة، لكنّها تبتعد عني. أنظر حولي، لن أجرؤ على رميها، هذا عقابي، وأستحقه، أبتلعُ كلّ شيء بشراهةٍ، ينظر إلي الصحن الفارغ الدبق بفتاته ضاحكًا وهو لا يغادر كفيّ المتعرق، أستند بيدي على الجدار ريثما تصل سيارة مستأجرة فارهة لتقلّني لأهم فنادق المدينة المكلومة.

تحثو خلفي خطوات ضيقة بينما يغلق الشارع دوني أضواءه الخافتة، تشدني يدٌ بائسة صغيرة، ألتفّ للخلف، يأتيني صوتها مغلفًا بآذان حزين بعيد

-هل ستأكل هذه يا عم؟

أقدّم لها الصحن بفتاته، تمسكه ببؤس وتغادر….أراقب جسدها الناحل وثوبها المتسخ القديم، مرتحلًا مع جوقة من الأطفال المشردين الباحثين في حاويات القمامة البعيدة عن ندم يشبه ندمي.

كنانة حاتم عيسى

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقديّة لرواية (الجزار). للكاتب “حسن الجندي” * د. عدنان عويّد:

من هو الروائي “حسن الجندي):      حسن الجندي, كاتب وروائي مصري, ا…