إن من يتابع الحراك الديني على المستوى الشعبي والرسمي/ الدولتي والمعرفي في تاريخنا المعاصر, سيجد ذاك الصراع المعلن أو الخفي بين أصحاب التيارات الدينيّة السائدة في الساحة السياسيّة والشعبيّة والمعرفيّة حتى اليوم, رغم قدمها في الخطاب الإسلامي, حيث تعود إلى مراحل متقدمة جداً من تاريخ الخلافة الإسلاميّة, وخاصة عندما بدأ يوظف الدين لتبرير التناقضات والصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة من بداية قيام الحلافة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول, وتاريخ هذه القضية في الإسلام يعود في الحقيقة إلى الفتن التي وجدت في الصدر الأول كمقتل عثمان، ومعركة الجمل وصفين، حيث بدأ المسلمون يتساءلون عن معنى الإيمان والكفر، وعن المعاصي أهي بقضاء نافذ، وأمر لا مرد له كما تروج ذلك السلطة الأموية، أم أن الإنسان مسؤول عما يقترفه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؟ وما هي حدود هذه المسؤولية؟ هذه التناقضات والصراعات التي تمظهرت فكرياً  بين أصحاب الإرهاصات الأوليّة للتيار العقلاني, كما هو الحال عند (غيلان الدمشقي وجعد بن درهم, وعموم المعتزلة), وغيرهم ممن أكد على حرية الإنسان وإرادته في تقرير مصيره, وبين أصحاب التيار الجبري الذي قال به (جهم بن صفوان) وتبناه مشايخ السلطان مع الحكم الأموي,  ثم مع الخلافة العباسيّة بشكل خاص كالحنابلة الذين فسح لهم في نشر تيارهم بشكل واسع الخليفة “المتوكل” الذي تبني فكرهم وجعله فكر الخلافة الإسلامية 232 للهجرة وصولاً إلى وهابيّة ودواعش العصر. ففي تاريخنا المعاصر, لم تزل المذاهب والعديد من الفرق الإسلاميّة قائمة وتمارس نشاطها, حيث نجد دولاً عربيّة وإسلاميّة ما زالت تتخذ من هذا المذهب أو ذاك, أو من هذه الفرقة الكلاميّة أو الدينيّة أو تلك, توجهاً دينيّاً لها, فهذه مالكيّة المذهب, أو أباضيّة, أو شافعيّة ,وتلك زيديّة, أو اثنا عشريّة, وتلك تدعي الوسطيّة في الإسلام, وغيرها اعتمدت الفكر الأشعري أو الماتريدي.. وغير ذلك. الأمر الذي جعلنا نحمل معنا حتى تاريخه, تلك الصراعات الدمويّة والكراهية بين أصحاب هذه المذاهب والفرق الدينيّة. وبالتالي هذا يتطلب منا أن نعيد قراءة أهم المواقف الفكريّة العقيديّة التي لازالت تمارس نشاطها في حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة, محاولين كشف الأبعاد الحقيقيّة على الأقل لهذه المواقف, ودورها في زرع الخلاف بين أبناء أمتنا في تاريخنا المعاصر, والمساهمة بشكل فاعل في زيادة تخلف هذه الأمّة, علما أن الخلافات ذاتها وفي معظمها تدور حول قضايا غيبيّة ولاهوتيّة وضنيّة, لا يمكن ملامستها في الواقع, أو الحكم عليها علميّاً, كصفات الله, وخلق القرآن, والحساب والعقاب, ومرتكب الكبيرة, وعذاب القبر وغير ذلك من قضايا سُجن وعُذب ونُفي وقُتل الكثير ممن كان يأخذ بها أو عافها من المختلفين بالرأي حولها.

التيار الجبري:

الجبر لغة:

     جاء في معجم المعاني الجامع – (معجم في اللغة العربيّة):

 جبَرَ يَجبُر ، جَبْرًا وجُبُورًا وجِبارةً ، فهو جابِر ، والمفعول مجبور – للمتعدِّي.

     والجبر اصطلاحاً: هو إجبار وإكراه لإنسان على فعل أمر ما دون إرادته ورغبته.

     وفي المصطلح الديني: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله. و كما يقول الشهرستاني في الملل والنحل: سُمِّي الجَبريَّة بذلك لأنهم يقولون: إن العبد مُجبر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن الله سبحانه أجبر العباد على الإيمان أو الكفر. (1). وهذا ما قال به “أبو حسن الأشعري” في كتابه (مقالات الإسلاميين): (هو إجبار الناس وإرغامهم على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم. ويرى الجَبريَّة أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر أو الطاعة أو المعصية التي وقعت منه، ليست فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يغير شيئًا من ذلك.). (2)

      و(الجبرية أصناف, هناك الجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل. وهناك الجبرية المتوسطة, وهي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة, وهذا ما قال به الأشاعرة في نظرية الكسب.  وهذا ما جعل المعتزلة يعدون الأشعريّة جبريّة.). (3).

    و”الجَبْرية أو المجبرة”, هي فرقة كلاميّة وجدت في الإسلام كما وجدت في غيره من الديانات التوحيديّة الثلاثة، وجوهر عقيدتها, هو أنها تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخيراً لأنه لا قدرة له على اختيار أعماله، ولذلك فقد اعتبرها علماء أهل السنة والجماعة. من الفرق الضالة المخالفة لمنهج وعقيدة الإسلام الحق. أي مخالفة لأهل السنة والجماعة. ويقال إن أول من قال بهذا المذهب الباطل هو “الجعد بن درهم” مؤدب “مروان  بن محمد” آخر خلفاء بني أميّة، ولذا كان يلقب بـ”مروان الجعدى”، (4).

     هذا وقد اعتبر الأشاعرة وأهل السنة عموماً الجبريّة في المقام الأول لوصف أتباع جهم بن صفوان (ت 746) وذلك لأن الأشاعرة يعتبرون عقيدتهم بموقف وسط بين القدريّة والجبريّة، ومن ناحية أخرى اعتبر المعتزلة أن الماتريديّة والأشعريّة بمثابة جبريّة لأنهم حسب رأيهم رفضوا العقيدة الصحيحة المتمثلة في الإرادة الحرة. وكذلك استخدم الشيعة (الزيديّة والاسماعيليّة والإماميّة الاثني عشريّة) مصطلح الجبريّة أو المجبرة متهمين به الأشعريين والحنابلة. مع أن الحنابلة والسلفيين عموما ينتقدون جميع الفرق الكلاميّة مثل القدريّة والجبريّة والمرجئة والجهميّة والمعتزلة وينعتونهم بالضالين. (5).

المرجعيّة المقدسة للجبريّة:

     لقد اعتمد الجبريّة على نصوص مقدسة من القرآن والحديث لتأكيد موقفهم هذا, كقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ).{التغابن: 11}. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾. [الأنفال: 17]. وقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). {التكوير: 28}.  وقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي. (6).

مبادئ الفرقة الجبريّة:

     إن أهم هذه المبادئ وأشهرها عندهم، هو مبدؤهم الخاص بأفعال العباد، وإن العباد في أفعالهم مجبرون، وكل ما يصدر عنهم إنما يصدر اضطرارًا, فليس لهم إرادة أو قدرة أو اختيار، فالعبد – كما يقولون – كالريشة المعلقة في الهواء، يُسيِّرها الهواء حيث يشاء؛ فكذلك العبد، هو في يد القدر يُسَيِّره حيث يشاء؛ فجميع أفعال العباد اضطراريّة، والله تعالى أوجد الفعل في العباد، كما أوجده في الجمادات والنباتات، وإذا نُسبت الأفعال إلى العباد، فإنما تنسب مجازًا باعتبار المحل، ولا تنسب إليه حقيقة.

نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن:

     لقد نفت الجبريّة قدم صفات الله، والكلام صفة من صفات الله؛ فإذا كان الكلام، صفة قديمة لله كان القرآن باعتباره كلامًا إلهيًّا قديمًا، وهم ينكرون القدم، إلا للذات الإلهيّة وحدها، ومن ثم فلا يكون الكلام قديمًا، ولا تكون صفات الله قديمة، وينبني عليه القول بخلق القرآن.

     لقد اعتقدوا أن الله واحد في ذاته، بمعنى: أنه غير مركب من أجزاء، وأنه لا شريك له في ذاته، بمعنى: أنه غير متعدد، وهو واحد في أفعاله، فلا شريك له، ومن هنا، ذهبوا: إلى أن الله تعالى، لا يتصف بصفات زائدة عليه من العلم والقدرة، والإرادة وغيرها.

      وهم لا يصفون الباري تعالى، بصفة يوصف بها الخلق؛ لأن ذلك يقتضي تشبيه الله تعالى بالمخلوقين، ولذلك نفوا وصف الله تعالى، بأنه حيٌّ، عالٍ، سميع، بصير، غني، حكيم، رحيم، ونفوا هذه الصفات عن الله تعالى، وما يماثلها مما يوصف به الخلق. وأخذوا بالآية: (ليس كمثله شيء).

موقفهم من الجنة والنار:

     يؤمنون بأن حركات أهل الخلدين -الجنة والنار- تنقطع، وأن الجنة والنار، تفنيان بعد أن يتنعم أهل الجنة، ويتعذب أهل النار المدّة التي قدرها الله تعالى.

الإيمان عند الجبرية:

     إن الإيمان عند الجبرية، يتحقق بمجرد المعرفة، حتى ولو لم يقر باللسان أو جحد اللسان؛ فمن عرف بقلبه، فهو مؤمن، حتى لو أنكر وكفر بلسانه.

     المعرفة تَجِبُ بالعقل قبل ورود السمع؛ إذ أن العقل يمكنه معرفة الخير والشر، ويمكن أن يصل إلى معرفة ما وراء الطبيعة والبعث.

انكار تجسيد الخالق:

     ينكر الجبريون أن يكون الله تعالى على العرش، أو أن له كرسيًّا، أو أن يكون في السماء دون الأرض, بل الله في نظرهم في كل مكان. وهم ينفون رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. (7).

     هكذا نرى أن الجبريّة يقحمون انفسهم في مناقشة وتأكيد قضايا تتعلق بالخالق ولا يعلمها إلا هو, وعلى هذا الأساس كفروا الناس وزندقوهم وقتلوا بعضهم, وبخاصة الفلاسفة العرب والمسلمين الذي رفضوا النقاش بهذه القضايا الغيبيّة, بغض النظر عن كل ما قدموه من قضايا تتعلق في علوم الحياة الماديّة والفكريّة معاً.

الرد على الجَبريَّة:

     في التحليل السوسيولوجي والأنثربويولوجي (الأناسي) تعتبر الجبريّة في سياقها العام موقفاً سلبيّاً من الحياة بالنسبة للإنسان ودوره ومكانته في هذه الحياة, فتاريخ المجتمعات البشريّة من خلال الدراسات التاريخيّة للعصور البشريّة, بين لنا بأن بناء هذه الحياة في كل مفرداتها الماديّة والروحيّة قام بها الإنسان منذ أن صنع وسائل إنتاجه الأوليّة بيده, وصولا إلى كل حالات تطور هذه الوسائل, وما تركته هذه الوسائل ذاتها من تغيير في حياة الإنسان وإعادة تشكيل هذه الحياة بشكل مستمر مادياً وفكريا وفقاً لمصلحة من يتحكم بإدارة هذه الحياة في أفرادها ومجتمعاتها ودولها.

     إن النص المقدس (القرآن والحديث) كثيراً ما أشار إلى حريّة الإرادة الإنسانيّة في اختيارات وممارسة أو نشاط هذا الإنسان في بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة معاً.

     فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 272]. وقوله تعالى ({ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف: 29 ], وقوله تعالى: ({ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلاً } [ الإنسان: 29 ], وقوله : ({ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ].

     روى الشيخانِ عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى). (رواه البخاري ومسلم.).

     وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر, ورجل باع حرا فأكل ثمنه, ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.) رواه البخاري.

     لا شك أن حالة التشابه في الآيات بين الجبر والقدر واضحة هنا, ولكن علينا أن ننتبه إلى قضيّة أساسيّة في التعامل مع هذا النص المتشابه, فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الموقف الجبري خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة تحقق لهم وللسلطان الذي يعملون على خدمته منافع كثيرة, لذلك هم يعملون على دفع الناس لتبني الجبر بغية تجهيل الناس وتغييب عقولهم عن حقيقة أمرهم وما يحيط بهم. أما الذين يأخذون بمقاصد الدين وجوهره الحقيقي وخدمته للإنسان ورقيه وتقدمه, فهم يؤكدون على أن الإنسان حر في إرادته وتفكيره وهو مخير في أمره, وعلى هذا الأساس هناك الكثير من أصحاب هذا الرأي من رجال الدين حوصروا تاريخيّاً من قبل السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخ السلطان وتاريخنا العربي والإسلامي ماضياً وحاضراً يدلنا على ذلك.

     ملاك القول: لنتخذ من العقل وحريّة الإرادة في أعمالنا وتفكيرنا ما يؤكد إنسانيتنا ودورنا في صنع تاريخا.. هنا فقط نؤكد إنسانيتنا وبأننا خلفاء على هذه الأرض كما قال عنا النص الديني المقدس نفسه.

د. عدنان عويّد كاتب وباحث من سوريّة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- (الملل والنحل للشهرستاني جـ 1 ص ـ 87). الناشر مؤسسة الحلبي.

2- (مقالات الإسلاميين – أبو الحسن الأشعري – جـ 1 صـ 338). الناشر مطبعة الدولة – استانبول

3- (موقع اليوم السابع: من هم “الجبرية”.. ولماذا رآهم أهل السنة والجماعة “فرقة ضالة”؟ محمد عبد الرحمن. ).

كذلك يراجع : (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ: 349).

4- المرجع ذاته. موقع اليوم السابع.

5- الويكيبيديا.

6- (موقع اسلام ويب.عقيدة القدرية والجبرية .(ولمعرفة عقيدة الجبرية والقدرية راجع كتب العقيدة، وراجع الفتاوى التالية مع إحالاتها: 9192 ، 36591، 35375.) كما وردة في مقال الموقع ذاته.

7- للاستزادة في معرفة مبدئ الجبرية راجع: موقع المعلومات: ما هي الفرقة الجبريّة. محمود عاطف.

‫شاهد أيضًا‬

الانتقال إلى الديموقراطية في المغرب ، أسئلة وآفاق : (1) .(2) . * محمد عابد الجابري

(1) – أسئلة … ومقارنات : أعتقد أن هذا هو المسار الذي يتحرك فيه العالم اليوم. إن الدي…