الفاسي الفهري: رفع ملتمسات باستمرار إلى الملك، هو نقطة الصفر في السياسة
عبد القادر الفاسي الفهري : ما تأسفت له هو أن يبدأ النقاش حول إصلاح التعليم بخرجة غوغائية حول اللغة حاوره: مصطفى النحال
في هذا الحوار الذي خص به الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، يعتبر بأنّ مقترح أن تصبح العربية العامية لغة مرسّمة في التعليم، على حساب العربية الفصيحة، مقترح جاء اعتباطا، جاء بدون مقدمات، ولا رؤية نظرية أو تجريبية، سياسية أو فكرية أو تربوية تستند إلى وقائع موضوعية، وتراكم تاريخي-تركيبي واع بما حققه المغاربة في مسارهم الحضاري-الثقافي. إنّ بدء النقاش حول إصلاح التعليم بالحروب اللغوية غير المبررة والاستفزاز عوض التروي والحجاج العلمي والإقناع بالمعطيات الموضوعية، والتفاوض والتوافق مع الأطراف السياسية والخبراء والعلماء أصحاب المكانة المتميزة والنيات غير المبيّتة، والتداول الدمقراطي الهادف، الخ، كلها شروط لا يمكن أن نستعيض عنها بالغوغائية.{ الأستاذ الفاسي الفهري، أبدأ معك بالتساؤل عن الدوافع والأهداف الكامنة وراء الدعوة إلى استعمال الدارجة وإدراجها في منظومة التعليم التي دعا إليها مؤخرا نور الدين عيوش، الذي نظم بالدار البيضاء ندوة حول التربية والتعليم؟> شكرا للاتحاد الاشتراكي على هذه الاستضافة. أولا إن مقترح ان تصبح العربية العامية لغة التعليم في المغرب مقترح جاء بدون مقدمات، ودون رؤية، ودون تحليل علمي دقيق ومتأن. فاقتراح مثل هذا لابد ان تسبقه مقدمات كثيرة. ومن جملتها، لماذا تختار هذه الصيغة، او هذه اللهجة، ولماذا نفصلها عن الفصيحة، مع أنهما متصل لساني واحد، أو لغة واحدة؟ هو مقترح استئصالي بتري مفقر، عوض أن يكون تراكميا مغنيا يجمع ويرصد ما يتوفر للمغاربة من غنى لغوي. أليست الحجة لصالح قبول التعدد اللغوي، الذي ينص عليه الدستور أن يكون مغنيا للرصيد اللغوي الثقافي للمغاربة؟ إن هذا الاقتراح جاء غامضا لان صاحبه يتردد، لأنه يتحدث مرة عن اللغة-الأم، ومرة عن اللغة الوسيطة، ومرة عن لغة الشعب، فلا ندري ما محتوى المقترح فعلا. وما المقصود باللغة المغربية، التي وحدها بقدرة قادر، مع أن هناك تنوعا كبيرا ومغنيا في اللهجات المغربية المتداولة، وهي كلها لهجات عربية في الشمال، والحسانية في الجنوب. فيها تفاعل و تأثير، بطبيعة الحال، للهجات الامازيغية، ولكنها تمثل مع الصيغة الوسيطة والسجل الفصيح متصلا لغويا عربيا linguistic continuum نظامه الأساسي عربي، كما أن الأمازيغية تأثرت باللغة العربية وأخذت منها، ولكن نظامها ظل أمازيغيا، ولا يمكن أن نقول ان هذه اللهجة، أو هذه الصيغة العربية تمثل لغة مستقلة، وإلا لقلنا ان الفرنسية ليست هي اللغة الفرنسية لمجرد أنها تأثرت باللهجات الجرمانية، وهي الأكثر جَرْمَنَة من بين اللغات الرومانية، ولقلنا ان اللغة الإنجليزية لغة فرنسية لأنها اخذت وتأثرت كثيرا باللغة النورماندية أولا، ثم اللغة الفرنسية، ثانيا، خلال فترة الحكمين النورماندي والفرنسي لإنجلترا. نحن بصدد متصل عربي له استعمالات مختلفة، وهو على كل حال مغن وشيء جميل من حيث التلوينات والتعددات الكثيرة، منها ما هو مستعمل في الزجل، وفي الملحون، وفي الحكي الشعبي، أو في التعليم، والإعلام، والرسميات، الخ. ثم إن هذه العربيات المغربيات تختلف بحسب العصور والأجيال، فلهجة أمي ليست هي لهجتي أنا، كما تختلف بحسب المناطق، هناك اللهجة المراكشية، والتطوانية، والبيضاوية، والفاسية، الخ. ليس هناك شيء يوحد هذه اللهجات، ولا ينبغي ذلك. وإذن إذا أردنا ان ندخلها في المنظومة التعليمية، ينبغي ان نصنع لغة جديدة توحد هذه اللهجات، ونُعَيّرها، أي نحولها الى لغة معيارية مقعدة standard. والحال أن غنى هذه اللهجة هو انها ليست لغة معيارية non-standard ، بل هي تنوعية، صالحة للتعبيرات الثقافية الإبداعية التنوعية، فما كل شيء في اللغة يُرَسَّم أو يقعد. كما أن اللغات الحضارية الأخرى لها لهجات كثيرة كذلك. فالألمانية المعيارية ليست هي الألمانية المستعملة في كل مناحي الحياة، وكذلك الفرنسية ولهاجتها، وهكذا دواليك. فهذا يدخل عادة فيما يسمى في الأدبيات اللسانية المجتمعية diglossia بالازدواجية اللغوية، أو الاستعمال التكاملي للعامية أو العاميات والفصيحة. هناك مستويات للغة تكون شعبية، ومستويات أخرى تكون فيها معيارية، ولا مجال للمفاضلة بين هذا وذاك، لأن كل صيغة وكل لون من ألوان اللغة له استعمالاته، وله فوائده.{ إلى أيّ حدّ يمكن التفريط في هذا الموروث اللغوي في سياق الشروط الجديدة؟ وهل هذا ممكن؟> نحن لا يمكن أن نفرط في هذا التراث الشعبي، وفي نفس الوقت لا يمكننا أن نعيش بدون لغة معيارية، لغة المدرسة ولغة التدريس. ما هو جدي هو أن من جملة مهام أكاديمية محمد السادس للغة العربية تقريب الفصحى من العامية وتقريب العامية من الفصحى، وجعل العامية في مستوى أرقى، لا صيغة هجينة، والشيء نفسه في الاتجاه الأخر. المفيد هو أن نأخذ مفرادت وتعبيرات راقية ومفيدة في العامية لتدمج في العربية الفصيحة، للرفع من جاذبية اللغة ومن تعبيريتها وحيويتها، والعمل من أجل ألا يكون هناك تباعد أو هوة بين السجلات اللغوية. وهذا لا يتم بدون تخطيط وبدون جهد جماعي كبير لمستعملي اللغة والخبراء. والمؤسسة التي يمكن أن يناط بها هذا التخطيط، علاوة على المهام الكبيرة الأخرى، هي المؤسسة التي ينص عليها القانون، أي أكاديمية اللغة العربية. هذا نقاش سبق ان حسم فيه في إطار ميثاق التربية والتكوين الذي اقترح فيه ان تكون مؤسسة تتولى النهوض باللغة العربية وتطويرها، وتكوين معربين جدد بتفكير جديد وجيد، ومنفتح، يبلورون تداخل الثقافات والآداب والمعارف والفنون، بل معربين تعدديين. والمعارف التي يجب ان تنقل إلى اللغة العربية، أو تكتب بها شيء ضخم ومستمر، ولا يمكن أن يقوى على القيام به أفراد غير منظمين. شأن اللغة هو شأن مستمر، لا ينقطع، وفي كل الدول والدول الراقية هناك معاهد وأكاديميات تطور اللغة من خلال التخطيط لها ولبقائها ومستقبلها وتفاعلها مع غيرها من اللغات.{ ما هو دور الدستور المغربي الجديد في هذا الشأن؟> الدستور المغربي الجديد ينص على العناية باللغة العربية، وعلى نشرها وتقوية استعمالها، وتوفير الوسائل لذلك، وفي نفس الوقت المحافظة على التعبيرات اللغوية المرتبطة بالهوية المغربية. إذن نحن دخلنا في تفكير جديد، وعهد جديد، عهد التنوع والتعدد والوحدة. مع الأسف مثل هذا المقترح الذي اثار جدلا اليوم هو تفكير اختزالي وإقصائي، تفكير يريد نبذ لغة. والنبذ اللغوي هو من الجرائم المحرمة دوليا. ولذلك نحن لا يمكن ان نأخذ مأخذ الجد مثل هذه الاقتراحات، بكل بساطة لأنها لم تعد مقترحات العصر، ولا ما يقترحه الدستور. لقد دخلنا عصر الديمقراطية اللغوية، في عهد الحقوق اللغوية والعدالة اللغوية. هناك مفاهيم وترسانة جديدة لا تسمح لنا بالحديث عن نبذ هذه اللغة او تلك. من هنا، فإن ادخال الدارجة ومعيرتها هو ضرب من الترسيم غير المباشر، والهدف منه، كما أعلن عن ذلك السيد عيوش، في عدة مناسبات، هو قتل اللغة العربية تدريجيا، كما وقع للإغريقية القديمة، او وقع للغات الرومانية مع اللاتينية، حيث كانت لهجات للاتينية وتدريجيا حلت محلها عبر الترسيم التدريجي والقوانين التي صدرت. المشكل هو ان الظروف السياسية والثقافية التي تم فيها قتل اللاتينية تدريجيا مغايرة تماما للظروف اليوم، لأنها انطلقت من قوميات لغوية، ومن محاولة بناء أمة قطرية حول اللغة، وقع هذا في فرنسا وفي إيطاليا، وفي إسبانيا، الخ. المغرب ليس هو فرنسا في عهد فرانسوا الأول، وليس هو إيطاليا في زمن دانتي، وليس هو إسبانيا في عهد ايزابيلا القشتالية الى غير ذلك. هناك ظروف مخالفة. الأمة-الدولة في المغرب قامت على أسس اخرى، مكوناتها الأساسية هي الاسلام والعروبة والمزوغة. هذه التركيبة الثلاثية في الهوية المغربية لا يناقشها أحد، وأما التفاصيل فهي في مستوى آخر: هناك تنوعات في الأمازيغية مثلا، الخ.{ كيف يمكن تدبير هذه التفاصيل؟> هذه التفاصيل يمكن تدبيرها في إطار المجلس الوطني للغات والثقافات. المغرب تقدم من حيث القوانين والمؤسسات بالقياس الي دول أخرى. المشكل الكبير هو أننا لا نطبق النصوص التي نتوافق عليها بعد جهد جهيد. ينبغي أن ننتقل الى التطبيق الفعلي. هناك الدستور، هناك قانون أكاديمية اللغة العربية، وظهير إنشاء المعهد الامازيغي، ودسترة المجلس الوطني للغات والثقافات، فضلا عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي كان محل توافق وتطعيم بمختلف الآراء، فنحن لا يمكن أن نخرج من نصوص ذات مرجعية كبرى مثل الدستور، اللهم إلا إذا كنا نريد الانقلاب على الدستور. هذا الاقتراح، اقتراح الدارجة هو بمثابة انقلاب على الدستور، لأنه يطعن في اللغة العربية، ويطعن في إمكاناتها. واللغة العربية مهما كانت لها من مشاكل، لابد من معالجتها بالإكثار من استعمالها، لا بقتلها. هنا أستحضر ديوي الذي يقول ما مفاده “كلما ازدادت مشاكل الديمقراطية يجب الزيادة في الديمقراطية”. بالإكثار من الديمقراطية ستحل مشاكل الديمقراطية، وبالإكثار من العربية ستحل مشاكل العربية. هناك اليوم انتشار للغة العربية عبر الفضائيات والمجلات والجرائد المكتوبة والالكترونية الخ، مما يدعم هذا المتصل اللغوي. لا ينبغي التركيز على الجوانب السلبية، المشاكل نسبية ولابد من قطع مسافات لإيجاد الحلول، وليس نبذها والبحث عن حلول غير معقولة. هناك كتاب ومؤلفون مغاربة يكتبون بلغة عربية متقدمة وحديثة نالت جوائز كبرى.{ ما هو المشكل الحقيقيّ المطروح في هذا الشأن؟ وما هي المؤسسة الوسيط الكفيلة بالقيام بهذا العمل؟> هناك مشكل حقوق وعدالة في هذا الوضع العام، ومشكل سياسي كبير. اللغة العربية مظلومة ومتضررة لأن النصوص المتعلقة بشأنها لا تطبق. واضح أن هناك مصالح في الإعلام والإشهار. الصحف العربية التي تكتب لم تكن مدعومة بالإشهار والصحف المكتوبة بالفرنسية هي المدعومة بالإشهار. وأذكر أنني حين نظمت ندوة في هذا الصدد، وأنا مدير لمعهد التعريب، قيل لي إن أصحاب الاقتصاد والإعلان هم الذين يطلبون الفرنسية. بطبيعة الحال هذه حجج واهية ومعروفة ويمكن دحضها بسهولة. واستمر هذا الوضع إلى أن وصلنا اليوم إلى إعطاء إشهارات بالعامية للصحف العربية، بعامية هجينة. فأصبح يعلن في صحف مكتوبة بعربية فصيحة بلغة هجينة قيل إنها أقرب إلى مسامع الناس! جل هذه الإشهارات لا تفهم. مثلا حين تكتب لي: واش عندك الضوبل؟ ديما عندي الضوبل، لاعندي التريبل. أنا شخصيا لا أفهم شيئا من كل هذا. فلو كتبت بلغة عربية فصيحة مبسطة لفهم الناس ببساطة. نخلق لغة هجينة، نلوث بها فضاءاتنا وفضاءات المتعلمين، مع العلم أن هناك كلمات في الدارجة هي عربية فصيحة ومفهومة ونفس الكلمات تحور لتصبح لا هي عربية ولا هي فرنسية. عجين وبغيل من الفرنسية والعربية والدارجة. وهذا غير مقبول، فنحن نسعى إلى ترقية المواطن بإشهار يمكن أن تتدخل فيه الدولة، كما هو الشأن في فرنسا وغيرها. هناك فضاء عمومي يوضع فيه الإعلان الإشهاري، وهذا الفضاء العمومي هو ملك للمواطن، فلا يمكن أن تعرض على المواطن إشهارا بلغة هجينة تفسد له ما تعلم في المدرسة. فالتلميذ الذي يقرأ أخطاء في الإعلان مثلا ويقرأ أشياء مغايرة في المدرسة يفسد له الإشهار بالعامية ما تعلمه، وهذا في الحقيقة اعتداء على حق المواطن في بيئة لغوية نقية سليمة. لا تتم التربية النقية الراقية بهذا الشكل، لأن التربية ليست فقط داخل المدرسة، التربية بيئة عامة تساهم فيها الدولة والمدرسة والأسرة والفضاء العمومي، وتنظيم الحقل العمومي هو من اختصاص المواطن ومن حق المواطن على الدولة أن تتدخل في الحقل العمومي لما فيه فائدة المواطن. هذا الفضاء العمومي لا يمكن أن نضع فيه أي لغة، لا نتدخل في الخواص، بينما الخواص يحتلون الملك العمومي والفضاء العمومي، ويمكن أن نقيد هذا الفضاء بصورة لا تقيد الحرية في شيء. لا يمكن أن نفسد الجهود التي يقوم بها المواطنون والتي تقوم بها الدولة، هذا يسمى إهدارا للجهود. إن نزول مستوى التعليم ليس فقط داخل المدرسة، هناك البيئة العامة للتعليم، والشيء نفسه يصدق على اللغة، لأن أول شيء في تعلم اللغة هي البيئة، فضلا عن الأبعاد الاقتصادية والقانونية والسياسية، فحين تستعمل هذه اللغة دون تلك، ألا تعتدي على غيرك؟ وحين تستعمل لغة هجينة وتترك اللغة السليمة، أليس الهدف من كل هذا إفساد لغة المواطنين، وبالتالي عقول المواطنين؟ فكلما كانت اللغة فاسدة، كلما فسد الفكر، وهذا كلام كونفوشيوس، الذي أحيل على قولته في كتابي عن «السياسة اللغوية في البلاد العربية».{ ما هي حدود الأجندة الفرنكوفونية في هذا الرهان السياسي حول اللغة؟> مع الدستور الجديد، دخلنا في عهد جديد وفي هذا السياق، فإن هناك أجندة فرنكوفونية. غير أن داخل الفرنكوفونية هناك فرنكفونيات. هناك فرنكفونية مصلحية ضيقة إقصائية، وهناك فرنكفونية جادة متعاونة تضامنية. وهذه الأخيرة هي التي تعي بأن الثقافة الفرنسية، واللغة الفرنسية مهددة، وتريد أن نتضامن معها ونتكافل لنحفظ هذه اللغة وتلك الثقافة، ونحن سنتضامن لأننا نريد الانفتاح على الثقافة الفرنسية، ونريد تعلم لغتها ودعمها، هذا لا إشكال فيه. ولكن ليس دعم الفرنسية على حساب لغتنا وتراثنا. في المجرة اللغوية العالمية، هناك موازين قوى لغوية، هناك ما يسمى بالإمبريالية اللغوية للإنجليزية التي تهيمن على باقي اللغات. وهذا فيه نقاش طويل. حتى حين طرحت وزيرة التعليم الفرنسية القانون الجديد في فرنسا لإدخال الإنجليزية من أجل تعليم عدد من المواد في التعليم العالي الفرنسي، قامت حوله ضجة في فرنسا. هل نقبل الإنجليزية أم لا نقبلها؟ وانتهى الفرنسيون إلى أنهم يجب أن يقبلوا هذا الوضع وقبلوه، وبقي هناك من يقول: كيف نعمل لكي لا تقضي الإنجليزية على الفرنسية بصفة تدريجية؟
|
||
…عن جريدة الاتحاد الاشتراكي ..11/20/2013 |